حوار خاص: غادرتُ سوريا عام 2014 بعد أن استنفدت كل الفرص وكدتُ أفقد حياتي

10 سنوات مرّت على اندلاع الصراع في سوريا. سنوات صعبة، عنوانها ألم وفراق، مرّت على الملايين داخل وخارج سوريا، ومنهم الصحفي السوري مصطفى الدبّاس الذي رأى الموت بأمّ عينه، وعانى من الغربة والبُعد عن الأسرة التي نزحت وتعيش الآن في إحدى القرى على الحدود التركية السورية.

تزامنا مع الذكرى السنوية العاشرة لاندلاع الصراع في سوريا وقبيل مؤتمر إعلان التعهدات لدعم جهود الإغاثة، أجرت أخبار الأمم المتحدة سلسلة من الحوارات مع شباب سوريين تحدثوا عن تجربة الرحيل والغربة.

اليوم نتحدث مع الصحفي مصطفى الدبّاس، وهو محرر في القسم العربي في مؤسسة “بيربوس Purpose” التي تدير حملة Verified التابعة للأمم المتحدة، التي تحارب المعلومات المغلوطة المتعلقة بجائحة كـوفيد-19، ومسؤول التنسيق الإعلامي مع الشركاء في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

أخبار الأمم المتحدة: في البداية أخبرنا عن حياتك في سوريا؟ أين كنت تعيش ومتى ولماذا غادرت البلاد؟

مصطفى الدبّاس: كنت أعيش في دمشق، درست صحافة وإعلام بكلية الإعلام في جامعة دمشق. كنت مقيما قريبا من أسرتي في دمشق. عندما بدأت الأحداث في 2011، كنت لا أزال أقوم بتقديم مشروع تخرّجي في الجامعة. بعد سنة اضطرت أسرتي لمغادرة دمشق والذهاب إلى إدلب، لأنّ لدينا منزلا في إدلب. كنّا نعيش في بَرْزة التي شهدت الكثير من الأحداث، فاضطرت عائلتي للمغادرة عام 2012 إلى قريتنا في ريف إدلب.

خلال هذه الفترة كنت أعيش وحدي وكنت أحاول الانتهاء من مشروع تخرّجي، وبعدها غادرت سوريا عام 2014.

أخبار الأمم المتحدة: بعد مغادرة سوريا، أين ذهبت وكيف تصف رحلتك قبل وصولك إلى برلين؟

مصطفى الدبّاس: أنا أعتبر نفسي من الأشخاص المحظوظين لأنني خرجت من دمشق في نيسان/أبريل 2014. توجهت إلى بيروت ومكثت لدى أحد الأصدقاء نحو أسبوعين، ثم وجدت غرفة صغيرة لي ولصديقي الذي سافرت معه. ومباشرة قدمت على مكتب الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين لإعادة التوطين، ولحسن الحظ كانت الإجراءات سريعة جدا بالنسبة لي، وبعد ستة أشهر من مكوثي في بيروت سافرت إلى ألمانيا.

خسرت أربعة أصدقاء من أعزّ الأصدقاء الذين تربيت معهم، منهم صديقي “بالحارة” كما نقول باللهجة السورية، كبرنا معا وذهبنا للمدرسة والجامعة معا. عندما بلغني خبر وفاتهم، شعرت أن جزءا من ماضيّ وشخصيتي مات. هذا الأمر كان مؤلما، وجعلني أقدّر الصداقات وأسعى لأن يكون لي صداقات في المكان الذي أعيش فيه.

أخبار الأمم المتحدة: هل كنت أيضا تخشى على حياتك في سوريا؟

مصطفى الدبّاس: كدت أخسر حياتي في سوريا. تعرّضت للخطف من قبل مجموعة مسلحة. وتم اقتيادي بشكل وحشي، ووضعي في صندوق المركبة. وتم ضربي بشكل مخيف وتهديدي بالسلاح. بلحظة كنت أتوقع أنني سأموت، وكتبت عن هذه اللحظات في تدوينة شرحت بها كل ما حصل هذا اليوم الذي تم اختطافي به.

في إحدى المرّات قررت أن أذهب لمنزلنا في برزة، لدي مقتنيات شخصية كنت أرغب أن أحتفظ بها. ذهبت عام 2013، رأيت جثثا على الأرض لم تُدفن، رأيت أطفالا يجلسون بجانب الجثث، كان مشهدا مخيفا جدا، جثة وطفل يجلس بجانبها، كان هذا من أقسى المشاهد التي رأيتها في سوريا.

Nisreen Aldabbas
صورة لمنزل الصحفي مصطفى الدبّاس بعد تعرّضه للدمار في برزة., by Nisreen Aldabbas

على سبيل المثال، في عام 2013 كنت أعمل في منطقة في وسط دمشق، سقطت قذيفة هاون بمكان يبعد عنا حوالي 100 متر، وتهشم زجاج المبنى، وأصيبت مجموعة من الأشخاص ورأيت الدماء. عشت هذه اللحظات التي كنت أشعر أنني بأي لحظة قد أموت.

بقيت 3 سنوات خلال الحرب في سوريا، ولم أغادر إلا عندما استنفدت كل الفرص

بقيت 3 سنوات خلال الحرب في سوريا، ولم أغادر إلا عندما استنفدت كل الفرص كيلا أندم على المغادرة وأقول “يا ليتني ما غادرت”.

منذ عدة أشهر، ذهب أحد أفراد أسرتي في دمشق، لمنزلنا في برزة، والمنزل مدمر بالكامل، ولكن الباقي من المنزل هو غرفتي، سريري مدمر، وغرفتي مدمرة، ولكن كانت كتبا معيّنة ما زالت موجودة. خسرت بلدي للأبد. خسرت المنزل الذي عشت به كل طفولتي. هذا كان من أصعب الأمور التي اختبرتها هنا. رأيت منزلي مدمرا.

Nisreen Aldabbas
غرفة الصحفي مصطفى الدبّاس مدمرة في منزله بسوريا., by Nisreen Aldabbas

عندما عدت إلى منزلي عام 2013، كانت لدي مجموعة من الرسومات كنت قد رسمتها منذ الطفولة، بعمر 14 و15 و18 عاما، جمعت قسما منها. وصينية نحاسية تحبها والدتي جدا، وكانت في غرفتي، وشعرت أنها إرث، جدتي أعطتها لوالدتي ووالدتي أعطتني إياها. ومجموعة من الصور لي ولأشقائي ولأبنائهم. أمور رمزية.

أخبار الأمم المتحدة: ما هي أكثر القصص التي مرّت عليك وأثرت بك خلال رحلة اللجوء؟

مصطفى الدبّاس: بصراحة، عندما غادرتُ بيروت كانت معي أسرة نازحة من سوريا مكوّنة من عشرة أفراد تقريبا، كانت تسكن في ريف دمشق. هذه العائلة تعرّض منزلها للقصف أو الحرق، وكان جميع أفراد هذه الأسرة يعانون من حروق من الدرجة الثالثة أو حروق شديدة فعندما سمعت قصتهم، تعاطفت جدا معهم لأنهم فقدوا منزلهم وتعرّضوا لتشوهات دائمة.

أخبار الأمم المتحدة: بعد وصولك إلى برلين، كيف استطعت أن تتأقلم في دولة بعيدة ولغة غريبة؟

مصطفى الدبّاس: هذا هو السؤال الذي يواجهه كل الأشخاص الذين وصلوا إلى أوروبا. من خلال عملي بالصحافة استطعت تكوين شبكة علاقات في وسط الصحفيين بداية في برلين، سواء صحفيين سوريين من الأشخاص الذين كنت على تواصل سابق معهم، أو من أصدقاء كنت أعرفهم في سوريا، أو صحفيين ألمان لأنني كتبت بضع مقالات نُشرت في صحف ألمانية. لقد ساعدني ذلك. ولكن أهم أمر وأكثر شيء صعب هو شعوري بأنني أبدأ من نقطة الصفر.

عندما كنت في سوريا كان لديّ ترتيب معيّن وخطط معيّنة وأهداف معيّنة أسعى لتحقيقها. عندما توجهت إلى بيروت بلا شك شعرت بأنني أبدأ من الصفر لأنني خسرت محيطي ومساحة الأمان التي كانت لديّ في سوريا، خسرت أصدقائي وعائلتي، منذ عام 2012 لم أرَ أسرتي. لكن في بيروت كان الوضع أسهل لأن الحياة في بيروت مشابهة للحياة في دمشق تقريبا، نتكلم لغة واحدة، موضوعات واحدة تهم الناس، الهموم والمشاكل موحدة.

عندما وصلت إلى برلين عدت إلى نقطة الصفر

لكن أيضا من خلال عملي الصحفي في بيروت مع عدّة وسائل إعلام محلية ودولية، استطعت تكوين شبكة علاقات وأصبحت لديّ حياتي الخاصة التي استمرّت لمدة ستة أشهر. عندما وصلت إلى برلين أيضا عدت إلى نقطة الصفر، وقد كان ذلك عبئا كبيرا، لأنه رغم تحقيق أي شيء، مع الانتقال لدولة ثانية يشعر المرء أن كل شيء فعله في السابق أصبح في الماضي، والآن يجب فعل شيء جديد هنا. تركيزي الأول كان على اللغة لأنها هي طريقة التواصل الوحيدة وأفضل طريقة للاندماج مع الوسط الجديد الذي يعيش فيه.

جرّة قام الصحفي مصطفى الدبّاس بتزيينها., by Mustafa Aldabbas

في بداية انتقالي إلى برلين، كان التركيز الأساسي على اللغة، وبدأت بتعلمها وأنهيت جميع المستويات التي تؤهلني للدخول للجامعة. خلال هذه الفترة كنت أعمل مراسلا أو محررا، عملت في الترجمة وأمور عديدة خلال الفترة التي تعلمت فيها اللغة، وكنت أكتب بشكل دوري مقالات عن الحرب في سوريا مع موقع “مونيتور”، وحظيت بفرصة للمشاركة في مبادرة تقوم بها صحيفة ألمانية وشاركت بعدّة مقالات حول حرية الإنسان والهوية والانتماء للوطن، لأن جميع اللاجئين كانوا يعانون من مشكلة هوية، عادات جديدة وثقافة جديدة، وهذا موضوع مؤثر جدا. كتبت أيضا عن حقوق المثليين. بعدما انتهيت من اللغة شعرت بأن حياتي بدأت باتخاذ شكل أفضل.

أذكر بنفس الشهر الذي انتهيت به من اللغة، بدأت بتدريب مهني مع إحدى المؤسسات الألمانية، وكانت أول تجربة لي في الوسط الألماني، وكنت أعمل مع مؤسسة باسم “صنّاع الإعلام الجديد” وهي مبادرة لمجموعة من الأشخاص من خلفيات مهاجرة موجودة من زمن بعيد في ألمانيا ويقيمون شبكة علاقات مع صحفيين في ألمانيا، في برلين، ويقومون بتنظيم ورشات تدريبية بمجالات مختلفة. كانت هذه فرصة كبيرة لي، وحصلت على عمل مباشرة بعد الانتهاء من التدريب. وأصبحت مسؤولا عن مشروع باسم “ماذا لو”، وهو سلسلة أفلام كرتون متحركة تشرح الدستور الألماني وتبسّطه ليكون سهل الاستيعاب. كنت المخرج الإبداعي لهذا المشروع وبالتعاون مع المكتب الاتحادي للتثقيف السياسي في ألمانيا.

مع اللجوء، وكأن الشخص تحوّل من اسم لصفة، بدلا من اسم مصطفى إلى لاجئ. بالنسبة لي هذا الأمر لا يسبب أي حساسية، لأنها صفة تُستخدم في وصف شخص يخرج من بلده ويلجأ لمكان آخر، يمكن أن يكون لاجئا داخل مخيم، أو داخل حدود معيّنة، أو في دولة ثانية.

ولكن من الأمور الصعبة هي ردود الفعل مثلا في ألمانيا مع ظهور حركات التطرف والعنصرية ضد اللاجئين، ونشوء أحزاب بأكملها بهدف معاداة اللاجئين. هذه الأمور التي تحدث على الصعيد السياسي تجعل الشخص يشعر بأنه فقد إنسانيته وعائلته ووطنه ومنزله، وهو غير مرحب به فقط لأنه يحمل صفة لاجئ.

أخبار الأمم المتحدة: الصراع في سوريا الآن بعد 10 سنوات هل يبدو أقرب أم أبعد عن الحل برأيك؟

مصطفى الدبّاس: أعتقد أبعد جدا عن الحل، باعتبار أن نصف الشعب أصبح مهجّرا خارج البلد، والنصف المتبقي هو نازح من منطقة لأخرى، مثل أسرتي. عائلتي مهاجرة لمرتين، الأولى منذ سبعة أعوام من منزلنا في دمشق، والثانية منذ سنة ونصف من منزلنا في إدلب. والدي ووالدتي في السبعينيات من العمر، وهما حاليا يقيمان في قرية على الحدود التركية السورية. نتكلم عن أشخاص يقيمون داخل البلد لكن لا يقدرون على العودة لمنازلهم، لأنهم خائفون أو لأن القصف مستمر في شمال إدلب.

نصف الشعب أصبح مهجّرا خارج البلد، والنصف المتبقي نازح من منطقة لأخرى، مثل أسرتي

برأيي أن الحل حاليا أصبح شبه مستحيل، بسبب عدم وجود أي اتفاق سياسي. هذا أمر صعب جدا لأن أمنيات ملايين السوريين هي أن يكون هناك حل ونهاية للصراع. ولكن ليس نهاية الصراع هو الحل دائما، فالملاحقات والاعتقالات مستمرة، وثمّة خوف من العودة للبلد. الأزمة طويلة جدا، على سبيل المثال الحرب الأهلية اللبنانية ما زال لها تداعيات حتى الآن. الحرب في سوريا مستمرة منذ 10 سنوات لذا لا أعتقد أن الحل وشيك.

الأمم المتحدة: متى كانت آخر مرة رأيت فيها أسرتك وعندما تتحدث معها كيف تصف لك الأوضاع في المنطقة التي تقيم بها؟

UNICEF/ Aaref Watad

مصطفى الدبّاس: لم أرَ والدي منذ عام 2010، فقد كان مستقرّا في قريتنا قبل الأحداث. باقي أفراد أسرتي لم أرهم منذ عام 2012 بشكل شخصي، ولكن يكون التواصل عن طريق الهاتف. والديّ يقيمان الآن في قرية صغيرة على الحدود السورية-التركية بعد أن هُجّروا مرتين من قريتهم، والآن يقيمان في تلك القرية منذ عام ونصف، بدون أي مقوّمات للحياة، لا توجد كهرباء ويعتمد السكان هناك على موّلدات الطاقة الشمسية، ولا يوجد استقرار ولا حياة ولا منزل. المنزل الذي يقيمان فيه هو مكان سيئ.

يتحدثان عن مدى التعب الذي أصاب المواطنين، مع عدم الشعور بالاستقرار، وأن أحلامهم توقفت وكأن من عام 2012 توقفت الحياة، ولا يسألون “ماذا سنفعل غدا؟” بل يسألون “كيف سنعيش اليوم لأن غدا قد لا يأتي”. عدم الشعور بالاستقرار وعدم الشعور بأن عليّ أن أفكر وأخطط للمستقبل، لم يعد هناك مستقبل هذا هو الذي يصلني من أهلي، كل شيء مؤقت.

الأمم المتحدة: هذا هو ما يصلك من الأهل. لكن ما هي الرسالة التي تريد أن توصلها أنت للسوريين الذين اضطروا لمغادرة بلدهم؟

مصطفى الدبّاس: بصراحة القصص التي أسمعها من الأشخاص الذين غادروا سوريا، والمشاريع التي تحدث لأشخاص من خلفيات مهاجرة في الحقيقة هذا الأمر مشرّف. والأشخاص الذين غادروا البلد منذ فترة طويلة وأصبحت لديهم حياة أخرى، ربما لديهم الآن أطفال يتكلمون لغات الدول التي هم فيها، أتمنى لهم حياة سعيدة ومليئة بالاستقرار بعيدا عن أي شعور بعدم الأمان.

أتمنى أن يتجاوز كل الأشخاص الذي غادروا سوريا هذه الحرب التي سببت صدمة للكثير منهم

لدي أسرة وأعرف كيف تعيش، ومئات الأصدقاء الموجودين في سوريا ويعانون من مآسي وويلات ما بعد الحرب، والأزمة الاقتصادية والخدمات السيئة وحاليا مع كورونا. أتمنى أن يتجاوز كل الأشخاص الذي غادروا سوريا هذه الحرب التي سببت صدمة للكثير منهم، وألا تصبح عائقا أمامهم وألا يفكّروا في أنهم ضحايا، بل إنّهم ناجون من الحرب.

بصراحة أنا عانيت من صدمة ما بعد الحرب. وهذا أمر مهم لأن الكثير من اللاجئين سواء بتركيا أو بأوروبا أو أميركا، كانت لديهم صدمة ما بعد الحرب دون معرفة أعراضها. يشعر المرء بالخوف من كل شيء، والخوف من المستقبل، وبأنه ليس قادرا على التعبير عن مشاعره أو أن يقول إنه يشعر بالشوق لأهله وبلده. صعوبة الاندماج والعوائق التي تحدث لا تعني أنه في أمان مع وصوله لأوروبا. الصدمة النفسية بحاجة إلى معالجة.

قد يعجبك ايضا