ملح الصليف بالحديدة.. حكاية يأس ينعشها الأمل
في ثمانينيات القرن الماضي كان ميناءُ الصليف يصدّر الملح لبقاع العالم بدءاً من اليابان، كوريا الجنوبية، بلغاريا وُصُـولاً إلى إفريقيا.
لكن الأمور لم تستمر على حالها مع فساد لم يكن ليستثني حتى الملح، فأطماع نافذين في السلطة ما قبل عقد ونصف عقد لم يكن لها سقف، وقصور أداء أشرفت عليه حكومة ذلك العهد لإدارات متعاقبة على شركة صناعة وتسويق الملح اليمنية أوصلها إلى سيئ ثم إلى أسوأ، وهَذا كان مثالاً حياً ما تزال بعضُ شخوصه حاضرة لقطاع بات على حزن واستيقظ اليوم على شيء من الأمل.
مناجم ومواقع شركة صناعة الملح
في الماضي كانت شركةُ صناعة وتسويق الملح والجبس اليمنية المشهورة بين العامة بشركة ملح الصليف تمتلك تراخيص لإدارَة ثلاث مناجم رئيسة، اثنان منها يقعان في مديريات المنيرة واللحية “مناجم القُمَة، وَمناجم القسعة”، حيث كانت هذه المناجم مخصصة لعمال الملح بالأجر اليومي لتوفير احتياجاتهم المعيشية فيما كانت مناجم الصليف ذات الشهرة مخصصة بالأَسَاس للتصدير الخارجي الذي كان يوفر العُملة الأجنبية للبلاد رغم إمْكَانيات الشركة البسيطة فيما يخص معدات وتقنيات وأساليب العمل في استخراج الملح والجبس.
احتياطياتُ الصليف.. دراساتٌ دولية
قدرت الدراسة الكندية احتياطات منجم الصليف من الملح بحوالي 115 مليون طن بعمق 40 متراً، إلَّا أن تلك الاحتياطيات قد تفوق هذا الرقم في ظل توقعات الدراسات بإمْكَانات التعمق أكبر داخل المنجم، كما يقول رئيس مجلس إدارَة الشركة فهمي محرم. وإلى جانب احتياطيات الملح الصخري، هناك طبقات الجبس التي تعلو منجم الصليف -الذي تتجاوز مساحته مساحة ملعبي كرة قدم مع إمْكَانيات التوسع الرأسي والأفقي القائمة- والذي تقدر احتياطاته بما يقارب 14 مليون طن، وِفْقاً للدراسات الفرنسية وَالألمانية التي أجريت عليه، وهذا ما يشجّع على التوسع نحوَ صناعة دون الاكتفاء بأعمال الاستخراج والبيع التقليدي للملح والجبس كثروة معدنية تستطيع توفير العملة الصعبة لخزينة البلاد ورفع المستوى المعيشي لموظفي وعمال الصليف وبالتأكيد أهالي المنطقة.
تصدير ملح الصليف
ما قبل تعطل معدات نقل وتحميل السفن، كانت الشركة تصدر ما يَتجاوز 35 ألف طن من الملح الصخري كُـلّ شهرين لدول في شرق آسيا وبعض دول أُورُوبا وإفريقيا، لكن تعمد جهات نافذة في الدولة إحلال الفوضى وضياع حقوق العمال والموظفين وترك معدات الشركة للإهمال بما فيها السير الناقل لحمولات الملح الخاص بتحميل السفن التجارية عطّل حركة التصدير، إلى جانب الضغوط التي كانت تمارَس لإيقاف تجديد عقود الشركات المستوردة للملح كما حصل مع الشركة اليابانية مارو بِني التي كانت مستورداً رئيساً لملح الصليف والتي أعيق فيما بعد تجديد العمل معها بإيعاز من عناصر نافذة في النظام السباق؛ بهَدفِ إيصال الشركة إلى مرحلة التدهور والانهيار استعداداً لضمها لقائمة مشروع الخصخصة الذي كان ينتظر الوحدات والمؤسّسات الاقتصادية الحكومية “الفاشلة” أَو هكذا كان يراد لها أن تظهر.
ما قبل الخصخصة.. فوضى وأمنيات
عضو مجلس إدارَة الشركة، عثمان حزوم، والذي كان يعمل فيها منذ سبعينيات القرن الماضي يقول: إن فوضى متعمدة كان هدفها إيصال الشركة إلى مرحلة الغرق على أن تأتي الخصخصة كمنقذ إنساني.
ويضيف حزوم بقوله: كان يأتي إلينا أشخاص بارزون في الدولة ويقولون لنا كيف تصبروا على هذه الحياة الأكواخ والعشش ولديكم هذه الثروة.. بعد أن تتم خصخصة شركة الملح التي تعملون فيها وتوزع أسهمها عليكم ستصبحون ملاكاً لديكم عقارات وأموال، وهكذا باعوا لنا الوهم بلسان يقطر عسلاً، ثم جاءت الخصخصة التي لم نفرح بإنجازها طويلاً، فمن أتوا بمشروع خصخصتها كان هدفهم شيئاً مختلفاً لا علاقة له بنا، فقط نهب أموال الدولة من الخلف، فيما كنا نحن ورقة اللعب ونحن الضحية.
عام الخصخصة وما بعده
في العام 2004، صدر قرار مجلس الوزراء رقم (214) بخصخصة شركة صناعة وتسويق الملح والجبس، حيث وقّع وزير المالية آنذاك على بيع هذه الشركة لصالح موظفيها من أهالي الصليف والمنيرة وكمران، 219 موظفاً، وأصبحت مع ذلك القرار شركة مساهمة، لكن ما حصل بعد ذلك كان أمراً مختلفاً تماماً، ويقول محمد جندس نائب رئيس مجلس إدارَة الشركة والأب الروحي للشركة كما يصفونه: إن ما حصل كان مؤامرة حاضرة منذ اللحظات الأولى لحديث الدولة عن تمليكهم أي “العمال” لهذه الشركة.. وكان المقصود أن يكون عُمال ملح الصليف في واجهة مشروع خصخصة الشركة أمام الإعلام والرأي العام، فيما المؤامرة على أرزاق هؤلاء كانت تُطبخ في الخفاء، فلم تمر سوى ستة أشهر على توزيع أسهم الشركة حتى ظهر النافذون في مناطق اللحية والمنيرة واستحوذوا بالقوة على العيون ومناجم الملح والتي هي بالأَسَاس في نطاق عمل شركة صناعة الملح اليمنية.
كان من هؤلاء نافذون في البرلمان في إطار شبكة المحسوبية العتيقة التي تشكلت في ثمانينيات القرن الماضي وتوسعت شيئاً فشيئاً لتستحوذ على كُـلّ شيء في هذا البلد ولم يكن الملح إلَّا نموذجا بسيطا من نماذج السيطرة على مقدرات البلاد.
سنوات الخير.. ثم السنوات العجاف
منذ الإقرار بخصخصة الشركة العام 2004 وحتى 2008 انتعشت إيرَادات شركة صناعة الملح على نحوٍ كبير، إذ بلغت إيرَاداتها بحسب الشركة 1.3 مليار ريال خلال الأربعة أعوام لكن سرعان ما تعرضت الشركة لانتكاسة كبيرة بعد دخول النافذين سوق الملح وضرب سعر السوق.
تقريرُ الحقائق.. فقط لإدانة البرلمان
في يوليو 2008، عرض تقرير لجنة تقصّي الحقائق بمجلس النواب نتائجَ الزيارة الميدانية لأعضائه لشركة صناعة الملح والجهات المرتبطة بها، مؤكّـداً تورط 11 شخصية نافذة بما فيها شخصيات بمجلس النواب في أعمال الاستيلاء على المواقع والمناجم التابعة لشركة صناعة الملح والجبس والتي هي في الأَسَاس مملوكةٌ للدولة.
ذلك التقرير دعا وقتَها لوقف تلك الاعتداءات على مواقع الشركة وعقاراتها وأصولها الثابتة والمتحَرّكة، مع إلزام المساحة الجيولوجية بتعويض أصحاب التراخيص الجدد “النافذين” في مناطق أُخرى بعد أن تورطت إدارَة الهيئة في ذلك الوقت بمنحهم تراخيص مزاولة النشاط الاستثماري في مواقع شركة الصليف.
ومع تذكير التقرير بضرورة إيقاف عمليات البيع لأصول الشركة والتي تبين فيما بعدُ أنها بإيعاز من قيادة المحافظة دعماً لسماسرة ونافذي وتجار الملح الجدد وتنفيذ أحكام القضاء التي كانت لصالح عقارات الدولة أولاً ثم لأحقية عمل شركة صناعة الملح الوطنية إلَّا أن كُـلّ ذلك ظل حبراً على ورق وترسخت معه أقدام القادمين الجدد إلى سوق مناجم الملح.
انتعاش ارتبط بمناجم النافذين
يجزم موظفو وعمال شركة ملح الصليف أن انتعاش سوق الملح عادة ما ارتبط بتوقف مناجم القمة والقسعة التي صارت تحت سيطرة النافذين في ذلك الوقت.
ويستعرض رئيس مجلس إدارَة الشركة العام 2015 والذي شن فيه تحالف العدوان الحرب على اليمن كمثال على ذلك قائلاً: كنا قد توقفنا مع الأيّام الأولى للحرب عن العمل لكننا عُدنا من جديد، استأجرنا المعدات وبدأنا العمل.. وعندما رآنا تجار القمة واللحية قد عدنا بدأوا مثلنا والهدف كما جرت العادة عدم ترك أية فرصة لنا للبيع والنهوض بالشركة.
وأتذكر في وقت أنه حصلت بين أصحاب تلك المناجم خلافاتٌ استغليناها للإنتاج، فارتفعت إيرَاداتنا إلى 40 مليوناً وَعندما وَعادوا انخفضت الإيرَادات إلى 3 ملايين، وهكذا ظل الحال وظل مصير عائدات ملح الصليف مرتبطاً بتلك المناجم منذ أن تم الاستحواذ عليها.
وتبخرت آمالهم سريعاً
مع هذه المنافسة التي أوجدها النافذون لم تستطع شركة ملح الصليف الاستمرار.. تدهورت المبيعات مع مرور الوقت للحد الذي عجزت معه إيرَادات الشركة عن الإيفاء بالتزاماتها تجاه هيئة أراضي وعقارات الدولة ومستحقات الضرائب.. إلى جانب العجز عن دفع أجور عمال اليومية وَرواتب موظفي الشركة ومن ثم توقف العمل والإنتاج وتوقف الآلات التي أكلتها رطوبة الصليف العالية.. ومع كون مباني شركة الملح اليمنية قديمة العهد تعود لما يقارب القرن كما يقول أهالي الصليف.. فقد تحولت الشركة بما فيها إلى أطلال وبقايا أثر وإن كان هناك من يستغل الوضع داخلها ليجني أرباح ربما تكون شخصية، فالملاحظ في زيارتنا للشركة أن إنتاجها العام بدا غائباً مع وجود إنتاج يظهر أنه “خاص” في حين يشكو المساهمون أَو ملاك الشركة ما بعد الخصخصة من أوضاعٍ معيشية صعبة مع فقدانهم لمصدر دخلهم، حالهم حال عمال الملح ممن كانوا متعاقدين بالأجر اليومي.
هيئةُ الثروات.. وآمالُ العودة
وعلى وقْع المأساة التي دامت لعقد ونصف عقد، تسعى الهيئة العامة للمساحة الجيولوجية والثروات المعدنية اليوم في ظل نشاط غير معهود من قبلُ لإعادة الحياة لهذه الشركة الأم وإحياء قطاع صناعة الملح والجبس من جديد كما تفعل في كُـلّ قطاعات الثروة الوطنية.. في مبادرة تبدأ بالدعم ثم الشراكة التي ربما قيّدها التشريع والقانون الذي فُصل ما قبل 2014 لصالح ناهبي الثروات وشبكات محسوبياتهم..
لكن تظل تساؤلات مساهمي ملح الصليف حائرة عن ما إذَا كانت خطوةُ هيئة الثروات المعدنية كافيةً لحل المعضلة في ظل وجود من سطو على أملاك الدولة وعلى مواقع الشركة ومناجمها.
تعاون.. نحو الشراكة
ويثمّن عمالُ شركة صناعة الملحِ الجهودَ الحالية لهيئة المساحة والثروات المعدنية، وكما يقول عثمان حزوم: إن أهم ما قامت به الهيئة اليوم هو فرض هيبة الدولة التي كانت غائبة لعقود طويلة، فقد كان أمرا مهما لردع من أرادوا الاستحواذ على كُـلّ شيء. وما كانت المساعي لتوحيد سعر بيع طن الملح إلَّا بمثابة سحبِ البساط من المتلاعبين بالسوق وإن لم يكن ذلك كافيا كما يقولون، فشركة ملح الصليف اليوم تستأجر معدات الإنتاج بعد أن كانت تمتلك كُـلّ إمْكَانات ومعدات العمل والإنتاج، ولولا محاربة أُولئك المتنفذين لها لما تعطلت معداتها بعد أن أكلتها رطوبة الصليف العالية.. وبنظرة العاملين البسيطة فإن من سطو خلال عقد ونصف عقد على أقواتهم هم من يكافَأون بترسيخ وجودهم إلى جانب امتلاكهم للمعدات، إلى جانب أنهم صاروا بالأَسَاس تجاراً للملح..
والأمر الآخر كما يقول جندس: إن كُـلّ مناطق الملح في الصليف واللحية والمنيرة وغيرها يعلمون يقينا أننا لم نكن نبيع الملح من القُمة واللحية إلَّا للاستخدام الصناعي كدباغة الجلود وغيرها، فيما تجد اليوم علامة الصليف على منتجات تلك المناطق على أنه مستخرَج من مناجم الصليف، وإلى جانب أنه كذب فهو إقرارٌ من أُولئك بأن ملح الصليف هو الوحيد الذي كان يعد وما زال الأنسب للاستخدام الآدمي، كما تعرف ذلك هيئة المواصفات والمقاييس.
السعيُ لإعادة الحياة لشركة الصليف
ما تقدمه اليوم هيئةُ المساحة الجيولوجية من مبادرات هو ما كان يطالبُ به عمال وملاك أسهم شركة الملح منذ 2010 بعد أن رأوا دمار الشركة باسم الخصخصة والذي ضاعت معه حقوقهم.. فالمساعي لانتشال قطاع الملح وعماله وموظفيه تقوم على مراحل أهمها إزالة العوائق والأتربة التي تعيق العمل بالصليف مع تقديم الدعم المالي لاستئناف العمل من جديد وتشغيل الأيادي العاملة التي ظلت رهينة أطماع المتنفذين، على أن تنتقلَ شركة الملح والهيئة في مرحلة تالية إلى شراكة كبيرة تسعى لتطوير قطاع الملح والارتقاء به إلى مجال الصناعة، بما يضمن انتعاش مناطق الاستخراج وتوفير الخدمات فيها، وبالتالي تحسن ظروف الحياة لسكانها.
المسيرة- إبراهيم العنسي