تخلف حوادث العنف الجامعي جروحاً عميقة في مؤسسات التعليم العالي الأردنية، كما يترك تكرارها علامات استفهام كبيرة حول عدم القدرة على منعها، أو معالجة الأسباب التي تؤدي إليها.
آخر تلك المشاجرات شهدتها “الجامعة الهاشمية” الواقعة في محافظة الزرقاء (وسط)، وكانت مشاجرة عشائرية امتدت إلى خارج الحرم الجامعي، ما اضطر قوات الأمن إلى استخدام الغاز المسيل للدموع لكبحها، وبعدها قررت الجامعة فصل 42 طالباً فصلاً نهائياً بتهمة المشاركة في العراك أو التحريض عليه.
واندلعت مشاجرات سابقة في العديد من الجامعات، من بينها مشاجرة كبيرة في “الجامعة الأردنية” بالعاصمة عمّان، وهدد على أثرها رئيس الجامعة، نذير عبيدات، باتخاذ إجراءات مشددة بحق الطلبة الذين يثبت تورطهم، مشيراً إلى تشكيل لجان تحقيق لمعرفة أسباب المشاجرة، خاصة أن الجامعة قررت، قبل وقوعها بعدة أشهر، قرارات بفصل 14 طالباً عقب تورطهم في مشاجرة عشائرية.
وشهدت جامعة اليرموك، في نهاية العام الماضي، مشاجرة عنيفة بين مجموعتين من الطلبة، وقبلها وقعت مشاجرة طلابية تخللها اطلاق العيارات النارية في جامعة الطفيلة التقنية.
يقول عضو كتلة التجديد العربية الطلابية في الجامعة الهاشمية هاشم أبو محيسن، إن “بعض المشاجرات الجامعية تتحول إلى شكل من المعارك الكبيرة التي يشارك فيها مئات الطلبة وفق النزعات الضيقة كالمناطقية والشللية، وتناقص الوعي الطلابي الجمعي بسبب الانتماءات المناطقية والعشائرية يعود إلى التضييق الحاصل على الأنشطة الطلابية، الثقافية والتطوعية وغيرها، إذ لا يمكن الحصول على موافقة عميد شؤون الطلبة الذي يتحول إلى حاكم إداري يأمر بإقامة أو عدم إقامة الفعاليات، بالإضافة إلى تعطيل مجالس اتحادات الطلبة والأندية الطلابية في معظم الجامعات، ليفقد الطلبة حقهم في تمثيل مصالحهم، أو حتى التعبير عن الرأي”.
ويرى أبو محيسن أن “الحل يجب أن يكون بمواجهة الأسباب وليس النتيجة، وهو ما يجب أن تعمل عليه الجامعات بجدية؛ فالعنف نتاج للبيئة الجامعية المقيدة، والانتماءات الضيقة، ولمواجهته يجب فتح المجال للطلبة للعمل بأريحية في الكتل والأندية الطلابية، وتفعيل مجالس اتحادات الطلبة في الجامعات. الحرية يمكن أن تحد من العنف الذي يرهق الجامعات، وينبغي استخدام العقوبات بطريقة مدروسة حتى تكون رادعة للمظاهر السلبية، وليس وسيلةً لمنع الطلبة من النشاط الطلابي داخل الجامعات. على الإدارات الجامعية أن تعي الأسباب الحقيقية للمشكلة، ولا تبقى متمسكة بسياسات التعنّت الحالية، أو اللجوء إلى حظر العمل الطلابي”.
بدوره، يقول الطالب محمود نصار، من كتلة العهد الطلابية في الجامعة الهاشمية، إن “العنف الجامعي مرفوض طلابياً بشكل مطلق، وهو امتداد طبيعي لما يجري خارج الجامعة، وقرار فصل 42 طالباً بسبب المشاجرة ربما يكون مستحقاً، لكننا نتحفظ على طريقة اتخاذه، فالقرار صدر عن رئيس الجامعة قبل عرض الطلاب على لجان التحقيق، وذلك استنادا إلى الأنظمة التي تسمح لرئيس الجامعة باتخاذ أي إجراء من دون العودة للجان التحقيق. هذا الأمر مرفوض لأنه إجراء تعسفي لا يفرق أحياناً بين التصرفات المتباينة للطلبة، والاتهامات الموجهة إليهم. نحن مع تغليظ العقوبات على من يستحق لكن ليس من دون تحقيق دقيق”.
يضيف نصار: “الفراغ الفكري والثقافي الموجود عند الطلاب يعد من بين أهم أسباب العنف الجامعي، وهو يحول دون وجود حوارات أو نقاشات تعتمد على الحجة والإقناع بدلاً من الصدامات واستخدام القوة الجسدية أو الألفاظ غير اللائقة، ومن بين الأسباب أيضاً غياب الأنشطة السياسية والثقافية، والتضييق على الكتل والقوى الطلابية داخل الجامعات، ما يجعل الممارسات الطلابية محدودة الحرية”.
يتابع: “عدم سماح عمادة شؤون الطلبة بأي فعاليات أو نشاطات سياسية وثقافية على مدار سنوات يجعل بيئة التنافس بين الطلاب مبنية على توافه الأمور، وليس إبراز الأفكار الخلاقة والابداعية، وهذا التضيق على النشاطات الطلابية يخلف بيئة مناسبة للعنف، في حين أن البيئة الطلابية يجب أن تكون مثالية للحوار والنقاش وبناء العلاقات الإنسانية، وكل هذا مرتبط بالاحتكاك بين الكتل الطلابية والتيارات المختلفة داخل الجامعات، ويصب تبادل الخبرات في نهضة الحياة الجامعية”.
من جانبه، يقول الخبير التربوي ذوقان عبيدات، إنه في 16 مايو /أيار الماضي، مرّ “اليوم العالمي للعيش معاً” الهادف إلى التأكيد على احترام الآخر وتقبله، والعيش معه في حدود المواطنة الكاملة، لكن لا أحد في الأردن بادر إلى استثمار هذا في بناء ثقافة الحوار والتواصل واحترام الآخر، وكأن مجتمعنا لا يعاني من طغيان الهويات الفرعية، وضعف الهوية الوطنية، كما لم تهتم به المؤسسات الحكومية أو الشبابية أو التربوية أو الثقافية، وتجاهلته منظمات المجتمع المدني، ومنظمات حقوق الإنسان، وهذا يعني أنه لا يوجد مسؤولون واعون أو مهتمون ببناء هذه الثقافة.
يضيف عبيدات: “كلما تحدث مشكلة في الأردن نتجه إلى الحلول القسرية، وفي التعامل مع المشاجرات الجامعية، وآخرها مشاجرة طلاب الجامعة الهاشمية، تقرر فصل 42 طالباً، وربما أعاد القرار الهدوء إلى الجامعة، لكنه لم يعالج أسباب العنف الذي يحتاج إلى برامج وخطط لمواجهته. في أوقات الهدوء لا أحد يتحرك، رغم أن جذور المشاجرات باقية، ما يعني تكرار تجددها، وفصل الطلبة المشاركين فيها ليس الحل. القيادات الجامعية قررت أن تعاقب الطلاب رغم أنهم ضحايا غياب الوعي التربوي والثقافي، وبالتالي انتصر الفاعلون الحقيقيون. الطلبة ضحايا وليسوا جناةً، فقد ولدوا في مجتمعات تقدس التفاخر بالقوة، وبالتفوق على الآخر، وأحيانا بيئة عشائرية غير متسامحة، وعندما ذهبوا إلى المدارس لم يتعلموا قيم التسامح، ودخلوا الجامعات فلم يجدوا برنامجاً إرشادياً، فكبرت عنجهية نشأتهم، وزادوا اشتعالاً”.
وتساءل الخبير التربوي: “الطلاب يذهبون إلى الجامعات من أجل التعليم، وحين نطرد 42 طالباً ما الذي سيستفيده المجتمع؟ وهل سيكون المفصولون شباباً مسالمين مبدعين؟ هل فكر من قرر فصلهم في هذا؟ أطالب بإلغاء قرار فصل الطلبة، ولا يعني ذلك العفو عنهم، فالعفو يكون عن المذنبين بينما الطلبة ضحايا، والمذنب الحقيقي هو البيئة الاجتماعية والمدرسية والجامعية، وحل المشكلات لا يتم بخلق مشكلات لأربعين أسرة”.
من جهته، يقول أستاذ علم الاجتماع العميد الأسبق لكلية الأميرة رحمة الجامعية حسين الخزاعي، إن “أغلب من يشعلون المشاجرات ويشاركون في توسعتها هم الطلبة ضعيفو التحصيل الدراسي، فضعف التحصيل يجعل هؤلاء الطلبة ينخرطون في مثل هذه المشاجرات. هناك بعض الطلاب يمضون سنوات طويلة في الجامعات، ويكون معدلهم التراكمي متدنياً، وغير مستكملين متطلبات النجاح، وهم عادة مهددون بالفصل من الجامعات، وهؤلاء يفتعلون المشاجرات أو ينخرطون فيها، وعندما يُفصلون يكون السبب مشاجرة، بدلاً من فصلهم لأسباب الضعف الدراسي”.
ويضيف: “للأسف هناك رفاق سوء في الجامعات، وبعض الطلاب ينضمون إلى شلل أشبه بالعصابات تحت مظلة مناطقية، أو فهم خاطئ لصلات القرابة العشائرية أو المصلحية، وفي ظل غياب ثقافة الحوار والتسامح، يكون البديل هو التعصب، وصولاً إلى الاعتداء الجسدي. ينبغي أن يتابع الأهل أبناءهم، حتى وإن كبروا وأصبحوا طلاباً في الجامعات، فغياب متابعة الأهل تزيد من احتمالية مشاركتهم في مثل هذه المشاجرات، والمتابعة المستمرة والحثيثة تجعل احتمال مشاركتهم في هذه المشاجرات أقل”.
ويرى الخزاعي أن “وجود الجامعات في مختلف المناطق جعل الخلافات في البيئة المحيطة تنتقل إلى الجامعات في ظل تقسيمات وتحالفات عشائرية ومناطقية في المحافظات، وربما يكون تغليظ العقوبات أحد الحلول اللازمة للحد من المشاجرات في داخل الجامعات”.