مع أن احتمال تجسس تطبيقات عديدة على ما يدور حول الهواتف ليس بعيداً إلا أن خبراء التكنولوجيا يميلون إلى عدم التسليم لهذه النظرية ببساطة
إذا كنتم من حاملي الهواتف النقالة، وهو أمر مرجح جداً نظراً لكون عدد أجهزة الهاتف المتصلة بشبكات الخليوي حالياً يفوق عدد سكان المعمورة، لا بد أنكم ألفتم تلك الإعلانات التي تستهدفكم من كل حدب وصوب، بمجرد البحث عن موضوع معين على شبكة الإنترنت، ما عليكم سوى تسليم محرك البحث “غوغل” رأس الخيط لتنهال عليكم الإعلانات أينما وليتم وجوهكم، مجرد سؤال بريء من قبيل “وصفات عشاء صحية” سيؤدي إلى تهافت شركات أنظمة الحميات والمكملات الغذائية والعلاجات السحرية لتخفيض الوزن، وحتى جراحات التنحيف ونحت الجسم والمشدات والتمارين الرياضية والمطاعم، التي تحضر وجبات صحية وما إلى ذلك من عروض تأتيكم من جهات تدعي أن لا هدف لديها سوى مساعدتكم على الحصول على ذلك القوام الممشوق الخالي من العيوب الذي تشاهدونه دائماً من خلال فلاتر “إنستغرام” و”تيك توك”.
باتت مسألة الإعلانات “المصممة خصيصاً” لفئة معينة من المستهلكين أمراً معروفاً ويدرك مستخدمو الإنترنت أنها تستند إلى جمع بياناتهم ومعلوماتهم من خلال ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) التي لا يخلو منها أي موقع أو تطبيق إلكتروني.
لكن الحال التي ما زالت محيرة لكثيرين، وربما اختبرتموها بأنفسكم، هي عندما تأتون على ذكر موضوع معين أو سلعة ما، بحضور هاتفكم الذي لا يفارقكم في أي مكان حتى في الحمام وغرفة النوم، ثم تجدون مواد ذات صلة تصادفكم بين زوايا الإنترنت، سمعت أمثلة كثيرة عن رؤية إعلانات لعطور أو مواد تجميلية أو أزياء من علامة تجارية معينة أو مطاعم الوجبات السريعة بعد ذكرها في حديث معين، لكن هذه التجربة تصيب مستخدمي الهواتف بالذعر أكثر عندما يكون الموضوع أقل شيوعاً، كما حدث مع أحد أصدقائي بعد جلسة كنا نتذكر فيها أيام الطفولة وتحدثنا عن ماكينات الخياطة من ماركة “سينجر” التي يتذكرها معظم أبناء جيلي ممن تربوا في البلدان العربية وما زالت صورتها بين أيدي الأمهات أو الجدات محفورة في أذهاننا، هاتفني ذلك الصديق بعد ساعة من انفضاض جلستنا ليسألني بنبرة فيها مزيج من القلق والدهشة والاستهجان، “أتعرفين ماذا رأيت وأنا أتصفح فيسبوك كعادتي قبل النوم؟ … إعلانات ماكينات خياطة!!”.
اعتبر صديقي هذه الحادثة دليلاً كافياً لإثبات نظريته بأن الهواتف الذكية تتجسس علينا طوال الوقت، وهو ليس الوحيد في شكه هذا، إذ هناك حملات عديدة شنت على “فيسبوك” في شأن تعامله مع خصوصية مستخدميه، وانتقدت سياسات المنصة الاجتماعية مراراً لدرجة أدت إلى فتح الكونغرس الأميركي سنة 2018 تحقيقاً مع مارك زوكربرغ صاحب ومؤسس شركة “ميتا”.
ومع أن احتمال تجسس تطبيقات عديدة على ما يدور حول الهواتف من أحاديث وأنشطة ليس بعيداً، إلا أن خبراء التكنولوجيا يميلون إلى عدم التسليم لهذه النظرية ببساطة ويفسرون ما يحدث بأن “فيسبوك” و”إنستغرام” و”سناب شات” و”تيك توك” وغيرها من التطبيقات تمتلك ببساطة خوارزميات ذكاء اصطناعي تتوقع سلوكيات المستخدمين بناء على تاريخ تصفحهم والأماكن التي يرتادونها عادة والمواضيع التي يبحثون عنها والفيديوهات التي يشاهدونها والسلع التي يشترونها بشكل متكرر والمحتوى الذي يجذبهم على الإنترنت، بالتالي تكوين صورة محددة عن المستخدمين وتصنيفهم في فئات عمرية وجندرية ومهنية واجتماعية معينة، وفي بعض الأحيان يكون توقع الخوارزميات دقيقاً وفي كثير منها غير دقيق، لكننا كمستهلكين يعيشون في عصر نظريات المؤامرة سنتذكر فقط المرات القليلة التي نجح فيها الذكاء الاصطناعي باقتراح أشياء كنا نفكر فيها أو نبحث عنها أو نتحدث عنها بالفعل، نظراً لاستخدام الهواتف لساعات طويلة واللجوء إليها في كل سؤال يرد في أذهاننا سواء كبيراً كان أم صغيراً باتت معظم الأفكار التي تخطر ببالنا هذه الأيام متأثرة جداً بالمحتوى الذي نهتم به في العالم الافتراضي.
على كل حال، في عام 2017، شنت حملة شرسة على شركة “سامسونغ” بعد اتهامها بتزويد هواتفها بتطبيقات مدمجة بتقنية التتبع عبر الأجهزة بالموجات فوق الصوتية التي تلتقط الإشارات غير المسموعة المنبعثة من المحيط، وورد في دراسة أجرتها جامعة براونشفايغ للتكنولوجيا في ألمانيا أن هذه الممارسة تسمح بتحديد موقع المستخدم أو التجسس على الأنشطة التي يقوم بها مثل مشاهدة التلفزيون أو الوصول إلى أجهزة أخرى مرتبطة بشبكة الإنترنت نفسها التي يستخدمها الهاتف وأن تلك التطبيقات تستمع أيضاً في الخلفية من دون علم المستخدم، وحددوا 234 تطبيقاً معتمداً في نظام أندرويد يمتلك هذه الخاصية، ووجد الباحثون أنه تم تطوير عديد من تلك التطبيقات لصالح شركات كبيرة مثل “ماكدونالدز” و”كريسبي كريم”.
أود التوضيح أنني لا أريد التحدث هنا عما يشاع عن تجسس حكومات الدول، بخاصة تلك التي تتحكم بها أنظمة مخابراتية، على مكالمات المواطنين ورسائلهم والتجارب المريرة التي مر بها البعض وجعلتهم يؤمنون بأن الهاتف هو بمثابة ميكرفون ينقل ما يدور حوله من أحاديث ببث حي ومباشر إلى غرفة مليئة بعناصر استخباراتية تستنفر آذانها بمجرد سماع اسم مسؤول معين أو حزب معارض أو حركة تمردية. أثناء عيشي في دولتين عربيتين سابقاً، كان لدي أصدقاء يرفضون التحدث إلا بعد إقفال الجوال بينما كان بعضهم يصر على إزالة الشريحة التي تصله بشبكة الخليوي وحتى البطارية من حجرتها، عندما كانت الهواتف المحمولة قابلة للفتح وليست محصنة كما هي عليه في يومنا هذا.
لكن مع ازدياد المعرفة بالقدرات الجاسوسية العالية للهواتف النقالة، تم تطوير تطبيقات عديدة للاستخدام الشخصي تتوفر في متاجر التطبيقات بشكل علني مثل “ستوك وير” stalkware أو “سباوز وير” Spouseware التي تسمح بالاطلاع على كافة الرسائل على الجهاز الخاضع للتجسس وتتبع تنقلات صاحبه إلى جانب الوصول إلى الكاميرات التي تتجسس على تحركاته، غالبية الذين يلجأون إلى هذه التطبيقات هم أزواج أو شركاء سابقون أو حاليون يريدون تعقب تحركات الطرف الآخر في العلاقة بقصد كشف الخيانة أو بدافع التعلق الهوسي، لكن قد تستخدم مثل هذه التطبيقات أيضاً لتتبع شخصيات عامة أو في مناصب مهمة، كما حدث مع الأمير هاري الذي يقاضي هو وقائمة طويلة من مشاهير أخرين تضم ممثلين ونجوماً رياضيين ومغنين وشخصيات تلفزيونية، مجموعة “ميرور غروب نيوز بيبرز” المالكة لصحف “ديلي ميرور” و”صنداي ميرور” و”صنداي بيبول” بتهمة وصولها إلى معلوماتهم الخاصة من خلال اختراق هواتفهم المحمولة ووسائل أخرى غير مشروعة في الفترة ما بين عامي 1991 و2011.
وربما هذا ما يجعلنا نرى الأبطال في أفلام الجاسوسية والإثارة دائماً ما يقومون بالاختيار الذكي ويجرون مكالماتهم الهاتفية الحاسمة من أجهزة أقل ذكاء (مثل الجيل الأول من هواتف نوكيا) ويعززون عدم ثقتهم حتى في تلك الأجهزة البسيطة من خلال التخلص منها بمجرد إنهاء المكالمة.
في عام 2020 أجرت إحدى شركات الأمن السيبراني تجربة أخضعت فيها هواتف ذكية عدة تم الحصول عليها من المصنع مباشرة وتفعيل حسابات وهمية عليها وتمكين أفراد عدة من استخدامها كل بحسب ميوله، بينما كانوا يكررون كلمات ومواضيع معينة في أحاديثهم بالقرب من تلك الأجهزة، تبين بعد فترة قصيرة أن تلك الهواتف لم تتمكن من تتبع سلوكيات المستخدمين المختلفين ولم تقم باقتراح إعلانات لها صلة بالكلمات والأحاديث التي رددوها بشكل متكرر.
عززت هذه التجربة التبرير الذي تقدمه المنصات التي تقوم بالوصول إلى قواعد البيانات الضخمة للمستهلكين أو الأنظمة المتبعة في مراقبة الشركات أو الأشخاص لأغراض إعلانية أو سياسية، إذ تصر على أن المستخدمين يشاركون المعلومات برضاهم من خلال الموافقة على شروط الاستخدام، التي لا تقرأها الغالبية العظمى، أو السماح للتطبيقات بالوصول إلى الميكرفون والكاميرا، على رغم أن الخيار القياسي في إعدادات الهواتف هو جعل منافذه متاحة أمام التطبيقات وعلى صاحبه أن يغير تلك التفضيلات بنفسه.
كما أن المدافعين عنها يؤكدون أن القوة ما زالت بيد المستخدمين وأنهم ما زالوا أصحاب القرار وبإمكانهم القيام بالكثير، وأن يبدأوا هل كان من المنطقي قبل زمن الإنترنت مثلاً أن يدخل أحدهم إلى حفلة ما حاملاً لافتة كتب عليها اسمه الكامل وتاريخ ميلاده وعنوان مسكنه ورقم هاتفه وبريده الإلكتروني وقائمة بأسماء أصدقائه والمطاعم التي ارتادها والأطباق التي جربها والفعاليات التي حضرها والأماكن التي زارها والموسيقى التي يستمع إليها والأفلام والمسلسلات التي يشاهدها؟
صحيح أن هذه الأجهزة الصغيرة تربطنا بالعالم وبتنا نعتمد عليها بشكل متزايد في حياتنا اليومية لدرجة أن الاستغناء عنها يبدو مستحيلاً، لكن علينا أن نكون حريصين في اختيار من الذي يقف على الجهة الثانية من هذا الباب عندما نريد فتحه، ولا نسمح بأن تكون مساحتنا الشخصية مباحة أمام كثيرين، من أصدقائنا وزملائنا في العمل الذين (نصادقهم) أو (نتابعهم) على المنصات الاجتماعية إلى الشركات التي لا تكترث لشيء سوى الربح المادي، فمثلما يعلم المال السائب السرقة فإن المعلومات المباحة تعلّ التجسس.
أتساءل كثيراً، في حال كانت هناك جهة ترصد تحركاتي وميولي في العالم الافتراضي وتحللها وتتنبأ بسلوكياتي، ما إذا كانت كلفت شخصاً واحداً بمهمة الجاسوسية هذه وبات الآن بعد سنوات طويلة يعرفني أكثر من نفسي، أم أن حياتي صارت موضوعاً تناقشه مجموعة من القراصنة الإلكترونيين الجالسين في مقر سري أمام شاشات ضخمة تتسابق عليها كميات هائلة من البيانات المتسارعة، ولا ضوء يؤنسهم في سهرتهم سوى ذلك النابع من أزرار دقيقة متناثرة فوق أجهزتهم.
على كل حال، أتمنى من جاسوسي الشخصي أن يخبرني بطريقة ما رأيه بهذه المقالة وألا يكتفي بقراءتها بصمت كعادته.