تخطّى الوقت الساعة السادسة مساءً بقليل. غربت الشمس، لكن تارا* ذات السنوات الثلاث عشرة لم تعد بعد إلى المنزل. خرجت الفتاة لمتابعة دروسها المكثّفة في الحيّ، كما تقول جدتها آرافي*. ومع أنّ تارا لم تتأخّر، فالتوتر واضح على جدتها.
ولا تتنفس آرافي الصعداء إلا عندما تلمح القامة المألوفة للفتاة البالغة من الطول ثلاثة أقدام وهي ترتدي اللباس التقليدي وتحرّك يديها يمنةً ويسرة. وتقول الجدة “لقد وصلت”، مع أن عيناها لا تبارحان تارا إلى أن تصبح داخل حدود المنزل بأمان.
لم تكن آرافي يوماً جدة تبالغ في حماية حفيدتها، كما تقول لصحيفة “اندبندنت”، مع أنّ العائلة تسكن في ناحية من محافظة غابات الأيكة الساحلية (المانغروف) في سوندربانس، التي تعدّ موقع تراث عالمي مسجلّ لدى اليونسكو سُميّ “عاصمة الأعاصير في الهند”.
إزالة الركام في ديغا، على بُعد نحو 190 كيلومتراً من كالكوتا، في أعقاب إعصار ياس الذي ضرب الساحل الشرقي في مايو 2021 (أ ف ب عبر غيتي)
يعاني الإقليم المعروف باسم 24 بارغاناس الذي يبعد نحو 110 كيلومتراً (68 ميلاً) عن العاصمة كالكوتا، من الأعاصير بمعدل مرة كل 20 شهراً، مما يجعل المنطقة أكثر مناطق البلاد تأثراً بالأعاصير من الناحية الإحصائية. أمّنت غابات المانغروف حماية جيدة من هذه الظواهر المناخية، عبر استيعابها آثار هبوب العواصف وقد تأقلمت المجتمعات المحلية هنا مع هذه الظروف.
لكن الدراسات أظهرت بأن العواصف الاستوائية تزداد قوة وتواتراً نتيجة تغيّر المناخ، وقد ضرب إعصار ياس المنطقة بعنف في مايو (أيار) 2021، فأصبح منزل تارا، المبني من الطين من بين 300 ألف منزل إما تضرر أو تدمّر.
شكّل أثر الإعصار المباشر ضربة لعائلة تارا، لكن سبب تغيير حياتهم إلى الأبد لم يكن دمار منزلهم، إنما ما حلّ بهم بعد العاصفة، عندما تم الإتجار بالفتاة التي كان عمرها 11 سنة لأهداف العبودية الجنسية.
اضطر والد تارا إلى الانتقال من قريتهم بحثاً عن عمل كسائق في كالكوتا؛ وتوفيت والدتها عندما كانت الفتاة بعمر السادسة. بعد الإعصار، “ظل الماء يغمر القرية بأكملها طيلة أيام” ولم يتوفر أي مكان يمكن أن تقيم فيه تارا، كما تقول جدتها. “لذلك أرسلتها للعيش مع خالتها (التي كانت) تسكن في مكان قريب”.
وتضيف “بدا زوجها سعيداً جداً باستقبال تارا”.
لكن آرافي تشرح بأنه كان سوء تقدير من جانبها. في أغسطس (آب) 2021، اختُطفت تارا، وتم الاتجار بها وإرسالها إلى دلهي، على بُعد 1600 كيلومتر، وأُرغمت على ممارسة العمل الجنسي. وتستذكر تارا الأحداث، فتقول في إشارة إلى زوج خالتها “في أحد الأيام، اصطحبني خارجاً، وأطعمني خبز شاباتي وحلوى اللادو. وبعد تناول الطعام، غبت عن الوعي. عندما استيقظت، كنت على متن قطار”.
وتقول “شعرت بخوف شديد”. ثم تضيف بصوت خافت “في دلهي، وُضعت في منزل في منطقة معزولة. لم أفهم حتى ما حدث معي هناك. لم أكن أعرف أي شيء عن معنى الإتجار بالبشر”.
وتتابع بقولها “أرغموني على ممارسة الدعارة… كنت أبكي وأقاوم، لكنهم كانوا يتمادون في ضربي. لم أعرف حتى بأنهم تاجروا بي. لم أفهم أي شيء. كنت أفتقد إلى منزلي فقط”.
لكن لا تارا ولا جدتها استسلمتا لهذا المصير بلا مقاومة. وتقول آرافي “طرقت كل الأبواب، من الشرطة إلى المنجّمين، إلى أي أحد يزعم بأنه قد يساعدني على استعادتها”.
في نهاية المطاف، وجدت آرافي منظمة غير حكومية محلية اسمها غورانبوز غرام بيكاش كندرا (GGBK)، تعمل مع الشرطة على إنقاذ النساء والفتيات من حلقات الإتجار بهنّ. وفي الوقت نفسه، تمكّنت تارا من مصادقة فتاة في دلهي بعمرها تقريباً، أخبرت السلطات المحلية بوضع الفتاة.
رحيمة خان كانت بعمر الثالثة عشر عندما تمّ الإتجار بها من منطقة البنغال الغربية إلى ماهاراشترا (ناميتا سينغ)
بعدما أدركوا بأنهم قيد التحقيق وقد يُعتقلوا قريباً، أعاد المهرّبون تارا والفتاة الثانية إلى غرب البنغال، وعند وصولها إلى المنطقة، شقت طريقها إلى قريتها. لكن تلك كانت بداية رحلة طويلة من إعادة التأهيل.
وتقول آرافي “كادت تارا أن تفقد صوابها. اعتادت أن تخدش جراحها وتؤذي نفسها وتشدّ شعرها وتأكله”.
“أنا التي اصطحبتها إلى الطبيب والعلاج النفسي. كان جسدها مشوهاً من الاعتداءات الجسدية التي تعرضت لها. لا يبدو بأنها تتذكر الكثير من فترة ما بعد الحادث”.
تقول سوباشري رابتان، مديرة البرامج التي تترأس عمل منظمة GGBK لمكافحة الاتجار بالبشر، إن تغيّر المناخ هو أحد العوامل الأساسية التي تؤدي إلى الإتجار بالأشخاص في المنطقة.
وتضيف “أفلس أقارب تارا بعدما ضرب الإعصار ياس. غمرت مياه البحر كل الأراضي الزراعية، ودمرت مصدر رزقهم. منزلها أيضاً تدمّر. ولم يجد والدها من خيار لكسب قوته سوى مغادرة القرية والانتقال إلى المدينة”.
“ولأن تارا لم تكن تحت رعاية والديها، استغّل المتهمون- وهم أيضاً أقاربها- نقطة ضعفها، مما أدى إلى (الإتجار بها)”.
ومن المسلّم به على نطاق واسع بأنّ آثار تغيّر المناخ ليست محايدة من ناحية النوع الاجتماعي، كما تشرح أفني ميشرا، الباحثة في شؤون الجندر في CGIAR، الشراكة العالمية المعنية بموضوع الأمن الغذائي.
وتتابع “تختلف المعاناة بين الرجال والنساء إجمالاً. ولدينا دراسات توضح لنا بأنّ النساء والأطفال أكثر عرضة للمعاناة من تغير المناخ… وأي نوع من الظواهر الطبيعية والمناخية المتطرفة”.
وتقول “إن هذا يحدث أيضاً بسبب انعدام المساواة الموجود أساساً والذي (يتفاقم) بسبب تغير المناخ”.
وتضيف ميشرا بأنه لو قُتلت الوالدة في ظاهرة مناخية شديدة “يصبح الأطفال ضعفاء وعادة ما يرفض الوالد أن يتحمل المسؤولية، أو يتحولون إلى عبء. لذلك طبعاً، إما يتاجر بهم أو يبيعهم أو يزوجهم باكراً”.
أما إن قُتل رب العائلة، “فهذا يطرح مشكلة بالنسبة إلى المرأة التي تصبح عزباء وأرملة. ويصبح الاهتمام بالمنزل تحدياً”.
شهدت الهند ارتفاعاً بنسبة 28 في المئة تقريباً في الاتجار بالبشر خلال الجائحة، وفقاً للبيانات الرسمية، إذ سجّلت 2189 قضية في هذا الإطار خلال عام 2021، مع أنه يُعتقد بأنّ هذا العدد ليس سوى جزء بسيط من الحالات التي لا يُفاد عن كثير منها. وفيما هناك دليل واضح بأنّ النساء والأطفال أكثر هشاشة أمام الظواهر المناخية المتطرفة، سواء خلالها أو بعدها، “فلو وقعت على نطاق أكبر، لا نعرف (ما قد يحصل)”، كما تقول ميشرا.
كانت رحيمة خان بعمر الثالثة عشر عندما تمّ الإتجار بها من قِبل جيرانها في عام 2012. وعبّرت عن استعدادها للتخلي عن حقها بعدم الكشف عن هويتها كناجية من الإتجار بالبشر في سبيل زيادة الوعي بهذه القضية.
وتقول “كنت عائدة من المدرسة إلى المنزل. كان الأشخاص الذين تاجروا بي ينتظرونني على الجسر في الطريق التي تؤدي إلى المنزل”، مضيفةً بأنها تعرّفت إليهم وعرفت أنهم جيرانها.
“اختطفوني وأدخلوني إلى سيارة. عندما بدأت بالصراخ، أجبروني على استنشاق مادة أفقدتني الوعي. بعد فترة، عندما استعدت وعيي، أدركت بأنني قادرة على رؤية كل ما يحيط بي لكنني عاجزة عن التكلم بصوت مرتفع”.
رأت من الجهة الخلفية للسيارة لافتة كُتب عليها اسم مدينة بونيه، التي تقع في ولاية ماهاراشترا في جنوب غربي الهند، أي على بعد أكثر من 1600 كلم عن قريتها في جنوب 24 بارغاناس. وتقول “عندما حاولت الهروب، أمسك بي المهرّبون وهددوا بتقطيعي إرباً”.
بعد ذلك، سلّموها إلى قوّاد أخذها إلى ماخور. قضت السنوات الست التالية من حياتها في ذلك المكان، قبل أن تتمكّن من الهروب في نهاية المطاف بمساعدة أحد الزبائن.
وتقول الشابة التي تبلغ 25 سنة من العمر، وهي تسرد قصتها- التي تشبه قصة تارا- عن الاعتداء الجسدي والنفسي والجنسي، وهي تنهار بالبكاء بين الفينة والأخرى “وضعوني داخل غرفة مليئة بالفتيات اللواتي يضعن مساحيق التجميل”.
“أخبرتني الفتيات اللواتي كن يعشن هناك منذ أيام بأنه تم الإتجار بي. أخبرنني بأنهم باعوني لقاء مئة ألف روبية (نحو ألف جنيه استرليني) وأنه عليّ أن أعمل في الجنس. اعتدين عليّ بالضرب كثيراً. ظللن يعتدين عليّ جسدياً إلى أن وافقت على شروطهن”.
وتتابع رحيمة بقولها “كان كل يوم قضيته هناك عذاباً. اعتادت نساء الماخور على حرقي بالسجائر وأرغمنني على شرب الكحول، وضربنني. لو أتى زبون ولم تستقبليه، يضربنك بأي شيء تقع عليه أيديهن”.
“في أحد الأيام، ضربتني إحدى السيدات هناك بزجاجة جعة. جُرحت ساقي. ومرة أخرى، وصلت إلى درجة من اليأس والإحباط جعلتني أقفل على نفسي داخل المرحاض وأربط حبلاً حول عنقي، على أمل أن أموت… لم أرد أن أعيش هناك”.
في سبتمبر (أيلول) 2017، نجحت رحيمة في الهروب. لكن محنتها لم تنته فوراً. لاحقها المهرّبون حتى منزلها وهددوا عائلتها بالعنف إن لجؤوا إلى الشرطة. وتضيف “لكن عندما أخبرت السلطات عن المهرّبين، كفّوا عن إيذائي”.
دُمّر منزل رحيمة تماماً في إعصار آيلا الذي ضرب في عام 2009، كما تقول. “تلقيت ضربة مباشرة (من الإعصار) لأن منزلي قريب من النهر. كان مبنياً من الطين، فيما منزل المهرّبين مبني من الإسمنت. لذلك تدمّر منزلي تماماً”.
ما عاد في المنطقة أي فرص عمل لأن المياه غمرت كل شيء، كما تفسّر. “دفعت المصاعب المالية والديّ إلى الانتقال إلى كولكاتا، عاصمة غرب البنغال. هناك، عمل والدي سائقاً وبدأت والدتي بالعمل كمساعدة منزلية”.
“عرض المهرّبون، المدركين لنقاط الضعف هذه، فرص عمل لكثير من النساء في الحيّ، قائلين إنهم سيساعدونهن على العمل في وظائف تدرّ عليهن ما بين 5 و10 آلاف روبية (في الشهر)”.
وتضيف “هذا مبلغ كبير بالنسبة في القرية التي آتي منها. لكننا اشتبهنا تقريباً بنيّة هؤلاء الرجال، لذلك لم يقاربوا عائلتنا أبداً لكي يعرضوا عليّ أمراً من هذا النوع. لكن بدلاً عن ذلك، اختطفوني”.
كما حال تارا ورحيمة، كانت آديتي* تعرف المهرّب الذي تاجر بها. وتقول “أنا أحب الرقص كثيراً. لكن الوضع المادي في منزلي لم يكن جيداً. لم يكن مدخولنا كافٍ”.
شرحت آديتي مصاعبها لمدرّس الرقص الذي عبّر لها عن سروره بمساعدتها. ولم تشكّ أبداً في نواياه.
وتقول الشابة ذات السنوات العشرين “عندما عرض عليّ أن يصطحبني إلى خيّاط مستعد لخياطة الملابس بالمجان لكي أتمكّن من المشاركة في مسابقة مدرسية، شعرت بفرح شديد. أخذني إلى الخيّاط، قائلاً إن المدرسة لا تمتلك ملابس تناسب مقاسي”.
لكنه كان فخاً. وتذكر بأنها ما إن بلغت موقع الخياط حتى خدّروها. “خدّروني باستخدام قطعة قماش. فقدت الوعي. وعندما استيقظت، أدركت بأنني قادرة على رؤية كل شيء، لكنني عاجزة عن الصراخ أو طلب المساعدة”.
بيعت آديتي بعمر الثانية عشرة في عام 2015 إلى ماخور في دلهي.
بعد أن علقت هناك لمدة ثلاثة أشهر على الأقل، تمكّنت آديتي من سرقة هاتف والاتصال بأقاربها. “اتّصلت عائلتي بالشرطة التي ساعدت في عملية الإنقاذ”.
بعد عودتها، كانت آديتي مصابة بصدمة نفسية. “بدأت بملازمة المنزل. لم أتحدث إلى أي أحد. ولم أغادر منزلي طيلة أربعة أو خمسة أشهر”.
عندما عادت إلى المدرسة بعد طول انتظار “لم يكن الأساتذة والتلاميذ يتحدثون معي. أو كانوا يطرحون عليّ أسئلة تطفّلية بهدف إحراجي، ‘أين كنت كل هذا الوقت؟ من أين تأتين؟ لا بد أنك فعلتِ شيئاً سيئاً’”.
أخذت آديتي تجلس في مؤخرة الصف وتحاول أن تبقى مخفية. “هذا ترك أثراً بالغاً على حالتي النفسية. كنت أفقد الوعي في طريقي (إلى المدرسة)، أثناء سيري خارجاً”.
وقالت آديتي إن من ساعدها في الشفاء هو منظمة غير حكومية محلية ومستشارين نفسيين محترفين. وما تريده الآن هو أن تكرّس حياتها للمساعدة على تقديم النصح لضحايا الإتجار بالبشر.
لا يزال الاستقلال المادي حلماً بالنسبة إلى رحيمة التي تقول إنها في معرض تقديم طعن أمام المحكمة لمراجعة مبلغ التعويض الذي يعادل 300 ألف روبية (نحو 3 آلاف جنيه استرليني) والذي تقاضته في عام 2022 بعد معركة قضائية مدتها خمس سنوات. يقبع الذين تاجروا بها في السجن، بانتظار المحاكمة.
وتقول “قدّمت طعناً أمام المحكمة العليا للمطالبة بتعويض أعلى، لأن المبلغ لا يُذكر مقابل ما تعرّضت له، والطريقة التي ما يزال يطاردني بها. أريد أن يكون لي عملي التجاري الخاص. لو كان لي عملي الخاص، لن أعود مضطرة لطلب المساعدة من أحد ولن يقدر أحد على استغلالي أبداً”.
وتقول تارا، التي أصبحت شديدة الخجل اليوم مقارنةً بشخصيتها السابقة الحرّة والخالية من الهموم، إنها تريد أن تصبح طبيبة. وتضيف جدتها، بينما تمضغ تارا شعرها “لو سألتها إن كانت تريد أن تصبح معلّمة، فسوف تجيبك بنعم على ذلك أيضاً”.
أما بالنسبة إلى آديتي، فإلى جانب عملها في المناصرة، هي تتابع دراستها وتسعى للحصول على شهادة البكالوريوس، وهي سعيدة بزواجها بحبيبها من أيام الدراسة.
وتقول لي ووجهها يحمرّ خجلاً “التقيت بزوجي خلال دراستي. عندما طلب الخروج معي، شاركته قصتي كاملةً. لكنه قال إن ذلك لا يزعجه أبداً”.
“كانت مسيرة طويلة بالنسبة إليّ”
*تغيرت أسماء بعض الأشخاص المذكورين لحماية هوياتهم.