مرّ تفجير خط غاز «سيل الشمال» الألماني ـ الروسي مرور الكرام. تحدّثت عنه وسائل الإعلام بداية لأسابيع قليلة، ثم دُفن الملف وغضّت عنه الطرف وسائل الإعلام الغربية، على الرغم من الأهمية التي كانت ألمانيا ودول أوروبية أخرى تعلقها على هذا الخط الذي يغذّي صناعاتها. مُيّعت التحقيقات ولم تظهر أيّ نتيجة، رغم توجيه أصابع الاتهام إلى الولايات المتحدة بشكل مباشر.
بداية وجّه الروس أصابع الاتهام إلى الولايات المتحدة وحلفائها، لكنّ اتهاماتها لم تلقَ آذاناً صاغية، باعتبار انّها الجهة المعنية بالحرب، وهذا قد يضعف من حجتها ومن صحة ما تقول. لكن الاتهام اللافت والموجع جاء من الداخل الأمريكي، تحدياً من الصحافي الأمريكي الشهير سيمور هيرش، الذي كشف في تحقيق استقصائي صادم قبل أشهر، ثم مؤخراً أضاف إليه بعض تفاصيل خلال أكثر من مقابلة صحافية وتلفزيونية، كان آخرها مع واحدة من محطات التلفزيون العربية.
في تلك المقابلة، أكد هيرش على اتهامه لإدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن بالوقوف خلف تفجير «نورد ستريم»، متهماً في الوقت نفسه السلطات الأمريكية ووسائل الإعلام الغربية بالتكتم على القصة. هيرش كشف عن تورط الاستخبارات الأمريكية بالعملية، بموجب أوامر مباشرة تلقتها من الرئيس جو بايدن، مؤكداً مرة جديدة كل ما نقله عن مصادر استخباراتية تعمل داخل «السيستم» الأمريكي، أقسمت بأنّ «ولاءها لا يكون للأشخاص، وإنما للدستور الأمريكي فقط»، على حدّ قوله. شرح هيرش كيف دعا بايدن بعد 3 أشهر من الحرب الروسية ـ الأوكرانية، عدداً من المسؤولين في الاستخبارات إلى اجتماع بحضور مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان. وكيف عرض هؤلاء على بايدن أكثر من سيناريو، واستقرّ الرأي في نهاية المطاف على ما يبدو، على خيار تفجير «نورد ستريم»، مذكراً في معرض توصيف سلوك الإدارات الأمريكية، بـ»تاريخ واشنطن الطويل في صناعة الكراهية». أمّا الدافع الخفي خلف تفجير خط الغاز، فبرّره الصحافي الشهير في حديث آخر مع صحيفة ألمانية، بعدم ثقة إدارة بايدن بألمانيا. فالبيت الأبيض في نظره كان يخشى من أن «تتوقف ألمانيا وأوروبا الغربية عن تزويد الأسلحة لأوكرانيا»، متوقعاً أن «تعيد ألمانيا تشغيل خط الأنابيب».. وهذا كان مصدرَ قلقٍ كبير في واشنطن، مشيراً إلى أنّ بايدن «فضّل أن يرى ألمانيا تتجمد بدلاً من أن تتوقف عن دعمها لأوكرانيا». هيرش اعتبر هذا الأمر عملاً حربياً من جانب الإدارة الأمريكية، ليس ضدّ روسيا فحسب، ولكن أيضاً ضدّ حلفائها الغربيين، وخصوصاً ضد ألمانيا وشعبها، وبذلك كان يعاقبهم على حرب لم تكن تسير وفق المرسوم لها أمريكياً! في التفاصيل، قال هيرش إنّ مجموعة غواصين أمريكيين، قامت في صيف عام 2022، بتفخيخ خط الأنابيب بالمتفجرات، ثم بعد ذلك قامت فرق عسكرية نرويجية بتفعيل تلك المتفجرات بعد 3 أشهر من زرعها. ربّما هذا ما برر لاحقاً رفض النرويجيين إشراك الجانب الروسي بالتحقيقات، ثم لاحقاً رفض واشنطن مناقشة الأمر في جلسة لمجلس الأمن الدولي. أمّا في النتيجة، فإنّ تفجير خط «نورد ستريم» أدى إلى الاستخلاصات والنتائج التالية:
1ـ تتحمل إدارة الرئيس بايدن المسؤولية الكاملة عن إلحاق الضرر، بأهم بنية تحتية للطاقة في أوروبا، باعتبار أنّها الجهة المسؤولة عن تخريب «نورد ستريم»، إن لم تثبت العكس.
2ـ بقيت دول القارة الأوروبية، خصوصاً ألمانيا، صامتة ولم تتقدم بأي اعتراض أو تطالب بتوضيحات من الولايات المتحدة، بل استمرّت، صاغرة، في رفد أوكرانيا بالأسلحة، وفق رغبة إدارة بايدن، على حساب اقتصادياتها ومصلحة شعبها، وهذا يؤكد تُهماً لطالما ساقتها روسيا بوجه الأوروبيين، بأنهم أسرى القرار الأمريكي في الشؤون السيادية حتى على حساب مصالحهم.
3ـ التحقيق الذي أجراه الصحافي الأمريكي، بمثابة إخبار للقضاء الأمريكي والأوروبي على السواء، اللذين لم يتحركا حتى يثبتا ذنب أو براءة الولايات المتحدة، التي دمّرت خطوط الأنابيب، تحت ستار ما قالت إنّه «مناورات العسكرية» لحلف الشمال الأطلسي (الناتو) في تلك المنطقة البحرية.
4 ـ «نورد ستريم» هو خط أنابيب دولي، وبالتالي فإنّ تفجيره هو تعرّض لمنشاة دولية، وهو أشبه بالعمل الإرهابي الدولي. يعكس رغبة إدارة بايدن في الهيمنة جيوسياسياً على العالم، وفي التفوّق الاقتصادي من خلال استخدام وسائل عسكرية وأمنية ضد المنافسين.
5 ـ رفض مشاركة محققين روس في التحقيقات التي أجرتها النرويج، يؤكد أنّ الروس ربّما كانوا قادرين على إثبات تورط الولايات المتحدة وحلفائها في التفجيرات، وبالتالي هذا يؤكد صحة رواية الصحافي الأمريكي، إلى حد كبير، وربّما لهذا رفضت أوسلو دعوة الروس إلى التحقيق.
6 ـ تعويض ألمانيا وأوروبا عن الأضرار الناجمة عن هذا الفعل ثم معاقبة الجناة، أمر محقّ ولا يحيد عن مبادئ الديمقراطية والعدالة التي تنادي بها الولايات المتحدة، ولا يبدو أنّها تلتزم بها، خصوصاً أنّ هذا العمل كبّد كبرى الشركات الصناعية في كل من ألمانيا وإيطاليا والنمسا وتركيا وفرنسا، خسائر كبيرة، كما زاد من إنفاق الأسر الأوروبية الأموال على الطاقة والكهرباء بشكل كبير، وتسبب بأزمات اقتصادية جمّة ونقص في الطاقة داخل القارة الأوروبية.