الغلاء بالعالم الإسلامي بين العوامل الاقتصادية والسياسية
Share
أشارت بيانات التضخم السنوية في بلدان العالم الإسلامي خلال شهر آذار/ مارس الماضي إلى ارتفاعات بنسب عالية، تتعدد أسبابها ما بين العوامل المحلية والدولية، ولا تقتصر تلك العوامل على النواحي الاقتصادية بل تمتد إلى العوامل السياسية المحلية والدولية، التي تشير إلى أن المشكلة مرشحة للاستمرار خلال السنوات المقبلة رغم تطمينات السياسيين ووعودهم.
ولقد بلغت معدلات التضخم الرسمية للسلع والخدمات السنوية خلال الشهر الماضي، 190 في المائة بلبنان و139 في المائة بسوريا حسب بيانات قديمة، و63 في المائة بالسودان و55.5 في المائة بسورينام و55 في المائة بتركيا، وزادت النسبة عن الخمسين في المائة في إيران وعن 30 في المائة بمصر وباكستان، وعن 20 في المائة بكل من نيجيريا وكازاخستان وجزر القمر، وعن 15 في المائة في تركمنستان والقرغيز.
وهي معدلات تضخم تعبر عن متوسطات لكل السكان بتلك البلدان، في حين يرى غالب السكان خاصة من الفقراء بأن واقع ارتفاعات السلع والخدمات أعلى مما يرد في البيانات الرسمية، ولذلك يبتكرون مقاييس خاصة بهم لقياس التضخم، حيث أن سلة السلع والخدمات الخاصة بالفقراء وأصحاب الدخل المحدود، تختلف عن سلة السلع والخدمات الخاصة بعموم السكان.
ولأن حالة الغلاء لأسعار الغذاء تدفع الكثير من السكان للتركيز عليه خلال الإنفاق للدخل، والاستغناء أو تقليل استهلاك السلع والخدمات الأخرى، فإن مؤشرات أسعار الغذاء وحدها تعد أكثر تعبيرا عن واقع الأسعار لدى هؤلاء. وهنا سنجد أن مؤشرات أسعار الغذاء السنوية خلال الشهر الماضي، أي التي تقارن بين أسعار الغذاء وحدها بآذار/ مارس الجاري بأسعارها في نفس الشهر من العام الماضي، قد بلغت نسبتها 261 في المائة بلبنان، و71.5 في المائة بإيران، و69 في المائة بتركيا، و62 في المائة بمصر، و58 في المائة بسورينام، و45 في المائة بباكستان، و24 في المائة بنيجيريا، كما زادت عن 20 في المائة في كل من أوغندا والمغرب، وظل مبرر ارتفاع أسعار العالمية واضطراب سلاسل الإمداد وما تلاه من الحرب الروسية الأوكرانية، هو الأمر السائد لتبرير تلك الارتفاعات خاصة بالغذاء والطاقة.
عجز تجاري في 24 دولة اسلامية
لكن أسعار الغذاء والنفط والغاز الطبيعي قد تراجعت دوليا خلال الشهور الأخيرة، في حين أن تلك الانخفاضات لم تنعكس على أسواق الدول المستوردة بنفس معدلات انخفاضها دوليا، وهو ما يعني وجود أسباب محلية للغلاء؛ منها لوبي المستوردين وحرصهم على تحقيق أرباح عالية، ووجود احتكارات عامة وخاصة، إلى جانب عدم ضبط الأسواق الشعبية من جانب الأجهزة المحلية المختصة بالرقابة على الأسواق وانتشار الفساد بها.
ويعد العجز في الميزان التجاري سببا رئيسيا في تلك الأسعار المرتفعة للغذاء، حيث تنتقل الأسعار المرتفعة للسلع من الدول المُوردة إلى الدول المستوردة. وحسب بيانات التجارة الخارجية للدول الإسلامية لعام 2021، نجد وجود عجز تجاري لدى 34 دولة من بين 57 دولة تضمها منظمة التعاون الإسلامي، وإذا كانت 23 دولة قد حققت فائضا تجاريا فإن غالبيتها دول مصدرة للنفط والغار الطبيعي، وباستبعاد صادرات الطاقة تتحول إلى العجز التجاري وحتى دول الفائض التجاري فإنها منكشفة غذائيا، وتستورد كميات كبيرة من أنواع الغذاء.
ولعل نظرة سريعة على قائمة أكبر الدول المستوردة للقمح في العالم، تشير إلى وجود تلك الدول ذات الفائض التجاري ضمن الدول الكبار لمستوردي القمح، ففي قائمة الدول الثماني الأوائل للقمح من حيث الكمية، كانت هناك سبع دول إسلامية إلى جانب الصين، حيث كان الترتيب إندونسيا فمصر وتركيا فالصين والجزائر والمغرب وبنجلاديش ونيجيريا.
والأكثر دلالة فيما يخص أثر العجز التجاري على الأسعار هو نسبة تغطية الصادرات للواردات، وهنا نجد نسبة التغطية تصل إلى أقل من 4 في المائة بجامبيا، وأقل من 6 في المائة بكل من جيبوتي والمالديف، وأقل من 9 في المائة بجزر القمر و10 في المائة بالصومال، و17 في المائة بفلسطين، و18 في المائة باليمن، و20 في المائة بسوريا، وهكذا كانت النسبة أقل من 30 في المائة في كل من النيجر وأفغانستان والقرغيز. أي أن تلك الدول ستجد صعوبة في تدبير نفقات استيراد السلع الغذائية المطلوبة، وكذلك مستلزمات الإنتاج الزراعى والصناعى من أسمدة ومبيدات وبذور وآلات ري وحرث، ومواد خام وسلع وسيطة ووسائل نقل وآلات ومعدات، مما يؤدى لاستمرار واستفحال مشكلة الغلاء المرتبطة بمحدودية الإنتاج المحلى.
تكرار تراجع قيمة العملات المحلية
ويتسبب نقص العملات الأجنبية في ضعف العملات المحلية أمام العملات الأجنبية وتراجع قيمتها، كما حدث في لبنان ومصر وتونس وسوريا واليمن والعراق وباكستان وغيرها، وصعوبة الحصول على تسهيلات من الموردين خاصة مع تدنى التصنيف الائتماني، الأمر الذي يؤدى لزيادة تكلفة الورادات الغذائية وبالتالى ارتفاع أسعارها بالأسواق، وانخفاض قيمة عملاتها أمام العملات الأجنبية من جديد لتستمر داخل تلك الدوامة.
ويزداد الأثر السلبي لمشكلة ارتفاع أسعار الغذاء إجتماعيا مع ارتفاع نسب الفقر بين السكان، مما يجعلهم غير قادرين على اقتناء تلك السلع وزيادة معدلات الحرمان، بما لذلك من آثار سلبية على الصحة العامة وعلى الاستقرار الاجتماعي وعلى الانتماء للمجتمع، حيث بلغ معدل السكان تحت خط الفقر في سوريا 82.5 في المائة، وبكل من نيجيريا وسورينام 70 في المائة، وغينيا بيساو 69 في المائة، وكل من توجو وأفغانستان 55 في المائة.
وهكذا تزيد نسبة الفقر عن 40 في المائة من السكان في كلا من اليمن وجامبيا، والسنغال والسودان وموزمبيق وغينيا وجزر القمر وتشاد ومالي وبوركينا فاسو والنيجر، وأكثر من 30 في المائة في كل من بنين والكاميرون وجويانا والجابون والقرغيز وطاجكستان وموريتانيا.
وتزداد المشكلة تعقيدا في ضوء ارتفاع معدلات البطالة في دول العالم الإسلامي، حيث تصل نسبة البطالة إلى 33 في المائة بنيجيريا، و28 في المائة بجيبوتى، و23 في المائة بفلسطين والسنغال والأردن، و22 في المائة بالجابون، و20 في المائة بكل من السودان وليبيا، و15 في المائة بتونس، كما تزيد عن نسبة 10 في المائة في كل من لبنان وجويانا والعراق واليمن، وأفغانستان والجزائر والمغرب وموريتانيا وجامبيا وألبانيا وسوريا وسورينام.
عدم الاستقرار السياسي مقصود من قبل الغرب
ويُضاف لتعقيد المشكلة حالة عدم الاستقرار السياسي في العديد من البلدان، مثل باكستان وليبيا وتونس والعراق ولبنان واليمن وسوريا، وانشغال كثير من الحكام بأمور أخرى مظهرية بخلاف الإنتاج الزراعي والصناعي، والاعتماد على تكثيف الاستيراد في المواسم لتهدئة الأسواق، وتكرار ذلك المسلك لسنوات طويلة رغم تغير الحكام، لسهولة الاستيراد بالمقارنة بصعوبة مسار الإنتاج بما يتطلبه في الزراعة مثلا من استصلاح ومياه وسماد ومبيدات وتمويل وتسويق ووقت، وهو ما يزداد تكلفة ومستوى تكنولوجيا ووقتا في المسار الصناعي.
وربما كان ذلك مقصودا لإرضاء الدول الغربية التي تحرص على استمرار دول العالم الإسلامي خاصة الدول ضخمة السكان، كأسواق استهلاكية كبيرة لمنتجاتها، مما يجعلها راضية عن هؤلاء الحكام الذين يحققون مصالحها ويساهمون في علاج عجز موازينها التجارية، مع منح حاشية الحكام وكبار المسؤولين العمولات السخية نظير إعاقتهم للإنتاج المحلب، سواء من الإنتاج الزراعي أو الانتاج الحيواني أو حتى الصناعات الصغيرة.
ولعل اعتراض الولايات المتحدة على توسع الدول النامية في زراعة القمح أحد الشواهد على ذلك، وحرص الدول الغربية على شغل تلك الدول النامية بحالة عدم الاستقرار الداخلي حتى لا تنشغل بالإنتاج، وها هو النموذج السوداني خير مثال، بشغله بالصراع مع الجنوب وبعد الانفصال شغله بالصراع مع كردفان، وكلما خرج من مرحلة من عدم الاستقرار شغلوه بأخرى من خلال الانقلابات العسكرية، والنتيجة استيراد السودان للحبوب خاصة القمح منذ سنوات طويلة رغم ما لديه من مساحات ضخمة صالحة للزراعة سهلة الري.