سكة التطبيع تسير على جثامين شهداء فلسطين

تقديم الإمارات مشروع قرار في مجلس الأمن يطالب إسرائيل بوقف التمدّد الاستيطاني بادرة جيدة، لكنها لا تتوافق مع استمرار التطبيع التحالفي مع إسرائيل، الذي يخترق دولاً عربية اقتصادياً وأمنياً وسياسياً كلّ يوم.

إذا كانت أي دولة عربية تعتبر أنّ المسألة تُختزل بقرار إسرائيلي بتأجيل تمديد مستوطنةٍ ما، أو تجميد قرارها بتثبيت بؤر استيطانية أقيمت خارج الكتل الاستيطانية الكبرى، يجب أن تعي، بل تعترف، لأنّها على الأرجح تعي أنّ أيّ تأجيل هو مناورةٌ تأتي عادة بفعل ضغوط أميركية حتى لا تتباطأ عمليات التطبيع، وستكون قراراتٍ آنيةً في انتظار التنفيذ المؤجّل، فلا ادعاء ولا تغيير جذرياً في السياسات، لا الأميركية، ولا الصهيونية.

نذكر هنا أن الاتفاقيات “الإبراهيمية” تمّت بعد “تفاهمات” بين الإمارات، عبر وسطاء صهاينة أميركيين، وإدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، بتأجيل ضم إسرائيل معظم أراضي الضفة الغربية، مقابل توقيع إماراتي على اتفاقيات تطبيعية غير مسبوقة، في إطار صيغتها التحالفية وتأييد إماراتي، على لسان مسؤولين ومؤثّرين، بل قبول بالرواية الصهيونية للحق اليهودي في فلسطين، بل التعامل مع منتجات المستوطنات غير الشرعية قانونياً ودولياً.

حينَها، دعت أصواتٌ صهيونية فاعلة، وفي مقدمها معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، إلى ضرورة تجميد قرار ضمّ أراضٍ من الضفة الغربية، بما فيها الكتل الاستيطانية الكبرى، إلى إسرائيل رسمياً، في معارضة لافتة وغير معهودة للسياسة الإسرائيلية من أهم معقل للصهيونية في العاصمة الأميركية، غير أنّ هذا لم يكن من قبيل المعارضة للاستيطان والمستوطنات، بل لمنع عرقلة مسار التطبيع، ففكرة “التطبيع أولاً” التي يتحدّث عنها رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، ليست جديدة، حتى إنّ الإدارات الأميركية، كانت تتأرجح، تاريخياً، بين استراتيجية تطبيع عربي إسرائيلي يفرض على الفلسطينيين قبول شروط تسوية تفرضها إسرائيل، أو فرض تسويةٍ على الفلسطينيين أولاً، من خلال مفاوضات ثنائية، لفتح مسار التطبيع ودمج إسرائيل في المنطقة، أي هل يبدأ “السلام” بحلّ “القضة الفلسطينية” أم بالتطبيع العربي الإسرائيلي؟

في العقود الثلاثة الأخيرة، اقتنعت الإدارات الأميركية والمراكز الصهيونية في أميركا وإسرائيل، بأنّ “تسوية مع الفلسطينيين” تشرع الباب لدمج إسرائيل في المنطقة، فيما تدفع أميركا بهدوء إلى إنشاء علاقات إسرائيلية – عربية، وظل النقاش دائراً داخل أروقة الحكم الأميركي، خصوصاً أنّ معاهدة كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل لم تنجح في إحداث تطبيع شعبي، أو كسر إرادة الفلسطينيين، ولم تقلّص من العداء الشعبي العربي لإسرائيل، وبقيت الآراء تتأرجح، بعد اتفاق أوسلو الفلسطيني – الإسرائيلي، وبعد معاهدة وادي عربة بين الأردن وإسرائيل.

صحيح أنّ اتفاق أوسلو أنهى مقاطعة دول كثيرة لإسرائيل، فأعادت دولٌ من أميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا علاقاتها مع تل أبيب، وأنشأ بعض الدول علاقات معها، رغم أنها لم تكن لها علاقة أصلاً معها، لكنّ “أوسلو” لم يؤدّ إلى انفتاح شعبي على الدولة الصهيونية، فمع كلّ تداعياته، بقي الاحتلال ماثلاً أمام الأعين، ولم تُحدِث إسرائيل الخروقات بالحجم الذي اعتقدت هي وواشنطن أنّ بإمكانها شقّها في الوعي الجمعي العربي والمؤسّسات الأهلية العربية. لكنّ احتمالات فكرة “التطبيع أولاً” من دون اتفاق فلسطيني – إسرائيلي على تسوية نهائية بقيت ضعيفة، إلى أن جاءت الاتفاقيات الإبراهيمية، فتطبيع إسرائيل مع دول عربية خارج الطوق، ودول نفطية على وجه الخصوص، كانت فكرة بعيدة المنال. لم تكن المفاجأة في تحقيقها فحسب، بل المفاجأة الكبرى التي اقتربت من الصدمة لدى الأوساط الصهيونية، والأميركية، هي قبول أطراف الاتفاقيات الإبراهيمية وإقدامها على خطواتٍ تطبيعيةٍ مع تل أبيب لم ترحب بها أو تُقدِم عليها أيٌّ من الدول التي سبقتها بتوقيع الاتفاقيات، من فتح باب الاستثمار وتشجيع “التبادل الثقافي”، وزيارات مؤثّرين إماراتيين لإسرائيل، وكأنّ النكبة لم تكن، بل كأنّ الفلسطينيين غير مرئيين لهؤلاء، لا على أرضهم ولا في أي مكان.

كما ذكرتُ في مقالات سابقة في “العربي الجديد”، اعترفنا أو لم نعترف، أحدثت المعاهدات الإبراهيمية تحولات في المواقف الإسرائيلية والأميركية. فإدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، اقتنصت فرصة وجدتها تاريخية للاعتماد على دفع التطبيع العربي – الإسرائيلي أولاً، وبالتالي عدم محاولة حتى الدفع بمفاوضات سلام إسرائيلية – فلسطينية، حتى “يجهز الطرفان”، أو بمعنى أدقّ، حتى يجهز الطرف الفلسطيني لقبول واقعه تحت السيطرة الإسرائيلية مع تحسينات بسيطة. لذا، نرى أميركا تحاول، من جهةٍ، ضبط اندفاع حكومة أقصى اليمين الإسرائيلية، وإبقاء السلطة الفلسطينية حية، لكن ضعيفة، وإن كان صعود المقاومة، بمختلف أشكالها، قد استدعى الأميركيين إلى التدخل، فتشكيل لجنة أمنية بقيادة أميركا يعني أنّ الاستخبارات الأميركية توصلت إلى الاقتناع بفشل التنسيق الأمني الإسرائيلي ــ الفلسطيني، من وقف العمليات المسلحة، بل إنّ السلطة متردّدة تماماً في مواجهة “عرين الأسود” في نابلس أو “كتبية جنين”، لقناعتها بأن أي مواجهة تعني مواجهة دموية بين أبناء الحركة ذاتها (فتح)، فليس سرّاً أنّ “عرين الأسود” نشأت من داخل كتائب الأقصى، قبل أن تنضم إليها حركتا حماس والجهاد الإسلامي وغيرهما.

تدرك السلطة الفلسطينية ذلك، إضافة إلى أن المجموعات الجديدة، وإنْ جاءت من وسط التنظيمات، إلا أنها لا تتبع أوامر القيادات، والأهم أنها غير معنيّةٍ بالخصام بين حركتي حماس وفتح، وليست معنيةً بها، أي أنها أنشأت وضعاً جديداً، يجعل التنسيق أقلّ أهمية، والسلطة وقيادة فتح، حتى لو أرادتا، لا تستطيعان الاعتماد على التحريض الفصائلي، ولا على تخويف هذه المجموعات من نفوذ حماس، فالقصة أصبحت أكبر من كل الفصائل، والاعتداءات الإسرائيلية اليومية لا تترك مجالاً للحديث الفئوي. ولذا، نرى لجنة أمنية بقيادة الاستخبارات الأميركية تدفع الأمن الفلسطيني دفعاً إلى مواجهة المجموعات الجديدة. وقد أنشأت الإدارة الأميركية مكتباً جديداً تحت مسمّى مكتب الشؤون الفلسطينية، يرأسه المبعوث الخاص، هادي عمر، واختصاصه التهدئة، من دون أي عملٍ يوقف عمليات القتل والتدمير الإسرائيلية.

المشكلة أنّ الأنظمة تتسارع في تعميق التطبيع، فالسودان في عجلة من أمره، والبحرين والإمارات ماضيتان في توسيع علاقاتهما مع إسرائيل، وإنْ كانت الحكومة الإسرائيلية لم تأبه حتى لحفظ ماء وجه الإمارات في محاولة الحفاظ على مقولة وهمية، بأنها وافقت على توقيع الاتفاقيات مقابل وقف الضم وتوسّع الاستيطان.

نعود إلى مشروع القرار المقدّم إلى مجلس الأمن، نعم هي خطوة مهمة وضرورية، لكن لا يتوهم أحد، أو يبِيع الوهم، أن أي علاقة عربية إسرائيلية ستُنقذ أي سنتيمتر واحد من الأرض الفلسطينية. من السودان إلى الإمارات تسير سكة التطبيع من دون توقف وتأنٍّ، غير آبهة لتدمير يومي لمنازل الفلسطينيين، وقمعهم وقتلهم، بل تسير في ركب الاستيطان العنصري على جثامين الشهداء وعذاب الأسرى.

*العربي الجديد

– ماجاء في الحوار لايعبر بالضرورة عن رأي الموقع

قد يعجبك ايضا