تعيش منطقة الشرق الأوسط مرحلة عاصفة، وتمر بتقلبات جيواستراتيجية سريعة وتُعقد فيها تحالفات غريبة لم يتخيّلها أحد من قبل. وتتأثر دول المنطقة وقواها الفاعلة بالاصطفافات مع وضد إيران، وبالصراعات الداخلية الدامية في سوريا واليمن والعراق، وبالتمزّق الداخلي في لبنان والسودان وليبيا، حيث ما زالت تداعيات الربيع العربي تثير الاستقطاب بين تأثيرات الثورة والثورة المضادة، مع رجحان كفّة الطغيان والاستبداد والقمع الدموي.
ويجد العالم العربي نفسه ممزقا بين قوى إقليمية قويّة ومؤثّرة هي تركيا وإيران كلا على جهة، وإسرائيل في مكان مختلف تماما ككيان معاد للعرب والفلسطينيين على طول الخط. وتحاول القوى الإقليمية التمدّد داخل الكيانات السياسية العربية، وتقوم بتوظيف ذلك لمصالحها الخاصة، وفي صراعاتها العلنية والخفية. وفي أجواء من الإرباك والتخبّط وضياع البوصلة، تسعى بعض الدول العربية إلى إيجاد حل لورطتها وأزماتها الأمنية والسياسية، من خلال التحالف مع إسرائيل، وهي تبدو كمن فقد بصره وبصيرته ولا يرى أن إسرائيل هي المشكلة وليست الحل، ومن يريد حلّا عليه أن يبحث عنه في مكان آخر.
لا بد من مخرج من الأزمات المستعصية والدامية والخانقة، التي يمر بها الوطن العربي، ويكمن الحل عند اللاعبين الشرعيين الكبار في المنطقة وهم العرب والأتراك والفرس، ولا بدّ من إيجاد الطرق لبدء حوار شامل بينهم يفضي إلى تفاهمات استراتيجية كفيلة بوقف نزيف الدم في اليمن، وتقريب وجهات النظر في ليبيا، والاتفاق على مخرج للأزمة السورية، قوامه تفاهمات بين القوى العقلانية في النظام والمعارضة، ومساعدة العراقيين على التوافق بينهم ووقف التدخل السافر في شؤونهم الداخلية، وتقوية الدولة اللبنانية وإيجاد صيغة أمنية شاملة متفق عليها، ودعم الشعب السوداني اقتصاديا وسياسيا، ومساندة الشعب الفلسطيني في معركة التحرر والاستقلال والعودة. هناك الكثير مما يمكن أن يربحه العرب من التفاهم والتعاون الجدّي مع الجارين القريبين التركي والإيراني، وهما أيضا سيربحان لا أقل. ومن المؤكّد أن استمرار الوضع على ما هو عليه، سيراكم الخسارة فوق الخسارة وقد يؤدّي إلى تداعيات أمنية خطيرة على الساحة الخليجية، خاصّة إذا حقّقت إسرائيل مبتغاها في الوصول إلى موطئ قدم في الخليج لمواجهة إيران، التي قد تلجأ بدورها إلى الرد على تموضع الجيش الإسرائيلي وأذرعه قرب حدودها، ما سيزج دولا عربية خليجية في صراعات عسكرية تعرض حياة مواطنيها للخطر.
لا يلوح في الأفق أي مخرج للمعضلات العربية المستعصية، إلا من خلال حوار ثلاثي شامل وتعاون عربي تركي إيراني، فالذين عوّلوا على الولايات المتحدة، يعرفون اليوم جيّدا أنها لم ولن تسندهم، وهي في طريقها للانسحاب من المنطقة، التي فقدت أهميتها بالنسبة لها، لانشغالها بمواجهة روسيا والصين. أمّا الرهان على إسرائيل، فهو ليس خطيئة فحسب، بل أسوأ من ذلك هو الغباء السياسي بعينه، لأن ما تريده إسرائيل في الواقع هو أن تكون الدول العربية حزام أمان حولها ضد إيران، وربما ضد تركيا في مرحلة ما. هي تبحث عن حماية لنفسها لا عن نصرة من يسعون للتحالف معها، ناهيك من أن التحالف اللا أخلاقي مع الدولة الصهيونية يؤجّج الصراع مع إيران، ويزيد من المخاطر لا يخفف منها. من الصعب الحديث عن ذات عربية فاعلة لها إرادة جماعية جامعة، فالعالم العربي يتمزّق ويتشظّى أكثر فأكثر، وكل ما يمكن أن ينكسر ينكسر، وكل ما يمكن أن يتفكك يتفكك. فكيف إذن للعرب أن يحاوروا غيرهم، إن هم غير قادرين على إدارة حوار مثمر في ما بينهم. وإذا انتظرنا ترميم العلاقات العربية البينية لحل المشاكل التي يعاني منها العالم العربي ومواجهة المخاطر التي يتعرّض لها، فمن الممكن أن يطول الانتظار حتى يصبح الترميم غير ممكن. هناك حاجة ملحة لإصلاح الدمار الحاصل في العلاقات العربية ـ العربية، والمفارقة أن الحوار مع الفرس والأتراك قد يساعد في ترميم البيت العربي، خاصة أن توتّر العلاقة مع إيران وتركيا مرتبط إلى حد كبير بخلافات وصراعات داخل المجتمعات العربية مثل، الأزمة الليبية وقضية الإخوان المسلمين والموقف من قطر. وكذلك الأمر، وبدرجة أشدّ بكثير نجد أن الحرب الأهلية في اليمن والصراع الدامي في سوريا والدمار الحاصل في لبنان والانسداد الخطير في العراق، هي مصادر إضافية للعلاقات العدائية مع إيران. هذا لا يعني بالطبع أن إيران وتركيا تخترعان مشاكل في الدول العربية، بل إنّهما تستغلان مشاكل قائمة وتقومان بتأجيجها للاستفادة منها في ظل علاقات غير سويّة مع العالم العربي. لقد أصبح التعاون العربي الشامل مستحيلا، بلا مؤازرة من إيران وتركيا، والحاجة إلى حوار معهما هي أيضا حاجة عربية داخلية، إذا صحّ التعبير. لقد شهدنا في السنة الأخيرة حالة غير مسبوقة من السيولة في الاتصالات والعلاقات بين دول المنطقة، من زيارات خليجية إلى تركيا وإيران وإسرائيل، وأخرى من قيادات إيرانية وتركية في دول عربية، وهناك شعور عام بأن المنطقة مقبلة على تغييرات وتحوّلات تاريخية. إن دخول إسرائيل كلاعب شرعي في التحالفات الإقليمية هو عامل تخريب وتطوّر في غاية الخطورة، خاصة وأنها تطلب من العرب أن ينضووا تحت لوائها وأن ينخرطوا في تحالف بقيادتها وأن يتبنّوا «حروبها» وأن يتخلّوا تماما عن الشعب الفلسطيني وقضيّته العادلة، وهذا يعني عمليا التخلّي عن العروبة وخسارة الذات، بكل ما يعنيه ذلك من انهيار حضاري وأخلاقي وسياسي.
أسوأ ما في السياسة هو قلّة الحيلة، والقول بأن لا بديل أو لا مفر أو أنّها «الضروريات» اللعينة. من الواضح والمنطقي، في ظل التطورات الإقليمية والعالمية العاصفة، أن هناك حاجة لإعادة النظر وترتيب الأوراق والأوضاع من جديد. ومن الجلي أيضا أن السياسات والاصطفافات القائمة بحاجة إلى تعديل. السؤال أي تعديل؟ الطرح بأن إسرائيل «مربط خيلنا» يزيد الطين بلّة ويرفع منسوب التوتر وسباق التسلح وعدم الاستقرار في المنطقة، وهذا تغيير سلبي بامتياز، بل أم كل السلبيات.
المنطقة بحاجة إلى منطق جديد.. هي بحاجة أن يجتمع ممثلو الشعوب العريقة والحضارات الكبرى فيها، عربا وأتراكا وفرسا، ليتفقوا في ما بينهم على احترام الكيانات السياسية، وعلى صيغة أمنية معقولة ومقبولة، بعيدا عن التلاعب الأمريكي والتآمر الإسرائيلي. العلاقة بين المجتمعات الثلاث عميقة ومتداخلة ومتشعبة وعريقة، ولا حاجة لإعادة سردها هنا، فهي معروفة وتشكّل قاعدة متينة لبناء علاقات حسن جوار وتعاون سليمة ومجدية يستفيد منها الجميع ويخسرون جميعا من غيابها وحضور بديلها المدمّر.
من الناحية العربية، الديناميكية في حوار ثلاثي أفضل بكثير من حوارات ثنائية تحكمها موازين قوى وفرط طمع ومطامع. في الحوار الثلاثي سيجد العرب سندا من أحد الأطراف لموازنة ضغوط الطرف الثالث، وهذا يعوّضهم عن ضعفهم العابر (هكذا نأمل!). كذلك قد يستطيع الطرف العربي امتصاص رجّات التوتّرات الحاصلة والمقبلة بين تركيا وإيران. ويبقى السؤال هل هذا الحوار ممكن أصلا؟ تبعث قراءة الوضع القائم على التشاؤم وحتى إلى أبعد من التشاؤم. فموضوعيا، تبدو المصائب التي نعاني منها في المنطقة غير قابلة للحل، وذاتيا لا يبدي اللاعبون المركزيون نوايا لحوار جدّي، ولا يعملون للتوصل إلى حلول معقولة تتطلب تنازلات من كل الأطراف، لكن بنظرة أخرى إلى الواقع في المنطقة، يمكن الاستنتاج بأن هناك ثغرات يمكن النفاذ منها للتواصل والحوار، ومنها مثلا أن القلق الأمني في الخليج، قابل للتهدئة فقط في الخليج نفسه، عبر طمأنة إيران أن دول الخليج لن تكون منطلقا للاعتداء عليها، وطمأنة إيرانية بعدم الاعتداء والضمانة التركية والعربية الشاملة مهمة وحاسمة في هذا السياق. وإذا تم التوصل إلى اتفاق نووي مجددا، فلن تكون هذه المهمة مستحيلة. هذا على سبيل المثال، وقد تكون ثغرات أخرى توفّرها تداعيات الحرب في أوكرانيا وأزمة الطاقة العالمية، وربّما مبادرات لقادة قرّروا أن يصنعوا التاريخ. هناك الكثير من القضايا القابلة للحل فقط في إطار حوار ثلاثي عربي تركي إيراني. وهذا الحوار يبدو بعيد المنال حاليا، ولكن يمكن العمل على التمهيد له. يمكن مثلا أن يبدأ فعليا حوار مثقفين من المجتمعات الثلاثة، وبالتأكيد سنجد عددا كبيرا من المثقفين العرب والأتراك والإيرانيين على استعداد للمساهمة في مبادرة ثقافية مشتركة تمهّد للحوار السياسي، القادر على اتخاذ القرار. كما تقع مسؤولية كبيرة على حلفاء إيران وتركيا العرب، لمد جسور الحوار والتعاون في المنطقة، فهذه مصلحتهم وهذا واجبهم في بداية وفي نهاية المطاف.
مسيرة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة.. لكن خطوة واحدة لا تكفي هنا. المطلوب ثلاث خطوات تنطلق من طهران وأنقرة والقاهرة للسير معا وبالتوازي لانطلاقة مجدّدة حضارية وثقافية واقتصادية وأمنية وسياسية، لصالح شعوب العرب والترك والفرس. نحن بحاجة إلى السير للفضيلة مرفوعي الهامات والهمم، لا للزحف على البطون نحو الرذيلة في تل أبيب.
رئيس حزب التجمع الوطني في أراضي 48