“فيسبوك” يحلّل العنف ويحرّمه لصالح أميركا وإسرائيل
بدايةً، لا يمكن تبرئة القائمين على موقع فيسبوك للتواصل من تهمة خرق حرية التعبير وممارسة القمع وازدواجية المعايير. وفي الوقت نفسه، قرار “فيسبوك” السماح بالدعوة إلى استعمال العنف في أوكرانيا، فيما يمنع صفحات تؤيد المقاومة الفلسطينية ويشطبها ويحظرها، فصلٌ جديدٌ من محاولة واشنطن السيطرة الكاملة على وسائل التواصل، وربطها بمعاييرها غير الأخلاقية. ولا مفاجأة كبيرة في موقف واشنطن هذا، لكن انصياع “فيسبوك” لتعليمات أميركية يؤكد أنّ وسائل التواصل لا يمكن أن تكون مستقلة، خصوصاً أنها جزء من السوق الرأسمالي العالمي، وبالتالي حسابات الربح والخسارة، الأهم من أيّ حسابات أخلاقية.
لم نصل الى مرحلة سيطرة واشنطن الكاملة على وسائل التواصل، وإن كانت لدى كثيرين منا تجربة مع حجب “فيسبوك” تعليقات وصفحات، خصوصا في أوج هبّة أيار الفلسطينية والعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، لكنّ قرار “فيسبوك” اعتبار المقاومة الفلسطينية “إرهاباً” والقتال ضد الجيش الروسي مقاومة، سقطة مخيفة تؤشّر إلى إمكانية تضييق غير مسبوق على وسائل التواصل، وجعل “فيسبوك” كما نشهد الآن أداة حربية تحت إمرة الولايات المتحدة. وقد لا نستغرب إذا كانت واشنطن تسعى إلى ضم “فيسبوك” ووسائل أخرى إلى آلة الدعاية لحلف شمال الأطلسي (الناتو).
لا علاقة لقرارات “فيسبوك” بالمعايير الحقوقية والأخلاقية تجاه فلسطين وأوكرانيا، فقرار حجب معلومات أو فيديوهات، تدعم المقاومة الفلسطينية وتفضح الجرائم الإسرائيلية، سياسي لحماية الدولة الصهيونية وتجريم المقاومة الفلسطينية تحت ضغوط إسرائيلية وأميركية، فهذا التجريم هو في صلب السياسة الأميركية. أما حجب مشاهد الجرائم الإسرائيلية فواشنطن كانت ولا تزال ضد تجريم المسؤولين الإسرائيليين أو محاكمتهم، فهذه الفيديوهات وروايات الشهود والضحايا من الفلسطينيين، قد تؤوَّل وتغيّر الرأي العام العالمي، وتحرّض ضد الاحتلال الإسرائيلي، وتوسّع المطالبات في الغرب بمحاكمة قيادات الدولة الصهيونية.
ومن جانب آخر، يدل التشديد على المنشورات الفلسطينية على قوة تأثيرها عالميا، وعلى الشارع العربي، وهذا ما يخشاه صنّاع القرار الأميركيون والإسرائيليون، إذا إنها تعرّي عملية تطبيع الشعوب العربية مع الاحتلال، وهذا التطبيع هدف مباشر لواشنطن في المديين القريب والبعيد، فلا يمكن تصفية القضية الفلسطينية من دون القضاء على الذاكرة الفلسطينية والوعي العربي بمركزية القضية، ووسائل التواصل، ومنها “فيسبوك”، أعطت للفلسطينيين منفذا يتجاوز السياسيات العربية الرسمية والوصول مباشرة إلى الشعوب.
في حالة حرب روسيا في أوكرانيا، لا تتعلق المسألة بدعم حرية الشعب الأوكراني، فتركيز أميركا على وسائل التواصل وفرض معاييرها ضروري، في اعتقاد واشنطن، لكسب معركتها في كسر شوكة روسيا ومنعها من البروز قوة إقليمية، بالمعنى الواسع، أي تكون لها كلمة الفصل في أوروبا، كقوة عالمية تشارك في صناعة السياسات العالمية، فأصبح التعامل مع الشعب الأوكراني ليس بوصفه شعباً له حق في تقرير مصيره، بل تريده أميركا أداة في معركة بقائها القوة العظمى الوحيدة، فالهدف المباشر روسيا والهدف الأكبر الصين، منافستها الأهم على عرش العالم. من منظورها، الموضوع ليس مقاومة أوكرانية ومشروعيتها، فميثاق الأمم المتحدة، الذي يؤكد شرعية مقاومة أيّ قوة محتلة بكل الوسائل المتاحة، لا يعني شيئاً لأميركا، إلّا إذا جرى توظيفه في خدمة حروبها، فجريمة “فيسبوك” هنا أنه قَبِل أن يصبح جزءا من معركة مطلوب منه المشاركة بها من أجل تثبيت هيمنة أميركا على العالم، وهو موقفٌ معادٍ لكلّ الشعوب، بما فيها الشعب الأوكراني.
شكّل “فيسبوك”، منذ انتشاره، منصّة هامة لحرية الرأي ولصوت المقهورين والمظلومين؛ لم يكن ذلك الهدف، في خطة مارك زوكربرغ أو زملائه الذين اتهموه بسرقة فكرتهم، لكنها طبيعة الفضاء الافتراضي، إضافة إلى أنّه لا يمكن لـ”فيسبوك”، أو أيٍّ من وسائل التواصل، النجاح من دون إمكانية توفره للملايين في العالم. لذا أفاقت الدول على تحدٍّ كبير، جعل من الصعب احتكار رواية الحدث وفقا لمصالحها.
وبالعودة قليلاً إلى ما قبل “فيسبوك” بقليل، جرى تنظيم التظاهرات التي أغلقت مدينة سياتل في الولايات المتحدة، في عام 1997، احتجاجاً على مؤتمر منظمة التجارة الحرّة، عبر “الإيميل” أي عبر الإنترنت، وصدم نجاح الحشد الإلكتروني وسائل الإعلام والدول الغربية التي لم تأخذ الدعوة إلى الاحتجاجات بجدّية، فكانت رسالة مدوية ضد العولمة الرأسمالية وسيطرة المؤسسات المالية، مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية، على اقتصاد الدول، وتطالب بالتنمية ووقف استغلال الشعوب. وشكلت تلك التظاهرات علامةً فارقة ألهمت نشطاء في العالم، إذ أثبتت أنّ “الإيميل” وسيلة رئيسية، إضافة إلى صفحات التدوين، وسلاح للرأي المعارض وتنظيم الفعاليات. وتاليا، قدّم ظهور “فيسبوك” أداة جديدة للتواصل المباشر، من دون حاجة أو إضافة لمجموعات “الإيميل”. ولمواصلة التحدّي، تبعه “تويتر” و”إنستغرام” و”تيك توك” على اختلاف استعمالاتها، فصوت الناس لم يعد يحتاج موافقة إدارة صحيفة أو قناة تلفزيونية أو إذاعة، لسرد حكاياتهم وإيصال أصواتهم في الدفاع عن حقوقهم من أصحاب السلطة والنفوذ.
بدا الأمر، في أواخر التسعينيات، خصوصاً بعد تظاهرات سياتل، أنّنا على وشك أن نشهد ثورة عالمية. لكن، على الرغم من اتساع تحرّكات الدول لقمعها، أي أنّ الدول الغربية، وكلّ الدول، انتبهت إلى قوة الواقع الافتراضي، لكنّها على الرغم من تقدّم تكنولوجيا التجسّس والتدخل والضغط على الإعلامين، الجديد والقديم، تجد نفسها في محاولة أن تسبق تحرّكات الشعوب ومقاومة النهج المسيطر. وفي حالة فلسطين، ظهر خطر استخدام الفلسطينيين وسائل التواصل، حين اضطرت وسائل الإعلام التقليدية وكبريات الصحف والمحطات التلفزيونية لنشر أصوات فلسطينية ومقالات تدين التطهير العرقي الذي تمارسه إسرائيل، فقدرة “فيسبوك” على حجب الحقائق لا تستطيع أن تتغلب على إيمان شعب بإرادته وحريته.
وبشأن الحرب الحالية في أوكرانيا، التي تعتبرها واشنطن حرب كسر عظم مع روسيا، تتطلب سيطرة على كلّ وسائل الإعلام، فإنّ ما يحدث يثبت أنّ لأيّ قوة عظمى أو غيرها، مهما امتلكت من تقنياتٍ متطوّرة حدوداً في إحكام السيطرة الكاملة، إلّا إذا استهدفت وسائل التواصل على الإنترنت، وحتى إذا استطاعت تقنياً، فإنّها لا تقدر عليها اقتصادياً وسياسياً، فهي معركة مباشرة مع ملايين الناس، وبالأخص الغربيين، وهم الأهم وفق منظورها العنصري، وقد تدمر شركات وقطاعات رأسمالية تعتبرها قاعدتها الاقتصادية والسياسية.
في النهاية، لا تستطيع أميركا التحكّم بكلّ شيء (وهذا ينطبق على كلّ الحكومات)، وإنْ كانت قد أضرّت بالشعب الأوكراني، خصوصاً أنّ دعم “فيسبوك” أوكرانيا يعتمد على ما تريد تحقيقه من أهداف ومصالح. أما بالنسبة للفلسطينيين، فمعركتهم ضد الدولة الصهيونية على “فيسبوك” مستمرّة، لأنّ الأصل هو صمود الشعب الفلسطيني، ومقاومته مستمرّة، ولا قدرة لـ”فيسبوك” وغير “فيسبوك” على ممارسة الرقابة على معركة تحرّر الإنسان والقضية.
-
العربي الجديد
-
المقالات المنقولة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع