استماتة أمريكية لعرقلة حل الملف الإنساني وصرف الرواتب
ابتزاز وضغوطات مكثفة تمارسها الولايات المتحدة الأمريكية على نطاق واسع لعرقلة جهود إحلال السلام والاستقرار في اليمن، وإفشال أي توافق يفضي إلى حل الملف الإنساني وتسليم رواتب موظفي الدولة من عائدات الثروات النفطية والغازية كأولوية لتخفيف معاناة شريحة كبيرة من المواطنين.
هذا ما ألمح إليه وأكده رئيس المجلس السياسي الأعلى فخامة المشير الركن مهدي المشاط في كلمته خلال زيارته لمحافظة حجة، والتي عرج فيها على المستجدات السياسية، وأسباب تأخير نتائج المفاوضات الأخيرة مع السعودية بوساطة عمانية، وقدم الكثير من الرسائل في هذا الجانب.
الرئيس أوضح أنه وبعد أن أدرك العدو السعودي وتوصل إلى قناعة بأن استقراره مرتبط باستقرار اليمن؛ وما تلى ذلك من إرسال وفد سعودي رفيع إلى العاصمة صنعاء لبحث حلول للملفات العالقة وخاصة المرتبطة بالجانب الإنساني كدفع الرواتب والإفراج عن الأسرى وغيرها من الخطوات الضرورية التي ترى القيادة في صنعاء ضرورة البدء بها لتخفيف معاناة الشعب اليمني جراء العدوان والحصار لأكثر من ثمانية أعوام، برز الدور الأمريكي لعرقلة هذه الجهود والحيلولة دون أن تُدفع المرتبات؛ رغم اقتناع السعودية بضرورة دفعها.
ووصف الرئيس المشاط المرحلة الراهنة بـ “الضبابية” أو كما يقال بالمصطلحات السياسية (اللا سلم واللا حرب)، نتيجة الضغوطات الأمريكية المستمرة لإطالة هذا الوضع والدفع باتجاه تأجيجه من أجل العودة إلى مربع المواجهات ليتسنى للحكومة الأمريكية جني المزيد من الأموال الضخمة من وراء صفقات الأسلحة التي اعتادت إبرامها مع دول العدوان طيلة السنوات الثمان الماضية وتراجعت منذ إعلان الهدنة في مطلع العام 2022م.
وكشف في سياق كلمته عن طلبات لكثير من الشركات العالمية، التي تريد الاستثمار في المنطقة، والتي تحاول الاستفسار عن طبيعة الوضع وما آلت اليه المباحثات، والتي نصحها فخامته بالتريث كون الوضع لم يحن للاستثمار في المنطقة ما لم يُحل الملف اليمني.. مؤكدا في هذا السياق أنه تم توجيه تحذيرات صريحة لكثير من الشركات، ولكل من وصفهم بـ”شركاء الضرر في العالم” من المسلك الأمريكي، وما يقوم به من دفع نحو التباطؤ والامتناع والتهرب والضغط باتجاه عدم إحراز تقدم في التوصل إلى حلول سريعة للملف الإنساني؛ المتمثل بدفع الرواتب، ورفع الحصار عن مطار صنعاء، وميناء الحديدة، بشكل كامل.
وتأكيدا على ما قاله قائد الثورة السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي في أحد خطاباته الأخيرة بأن “هذه العرقلة قد تؤدي إلى نفاد الصبر”، شدد الرئيس المشاط على ضرورة وضع حد للأطماع الأمريكية كونها مغامرة خطرة، تجلب الضرر على العالم أجمع ويجب أن تنتهي.
ومن أبرز الرسائل التي وجهها فخامة الرئيس في كلمته بأنه كان الأحرى بالأمريكي أن يتلقى رسالة صنعاء بأن لديها القدرات اللازمة لضرب أي نقطة في البحر، وأن يأخذ ذلك على محمل الجد، وألا يجرؤ على الدخول في مغامرات خطيرة، تضر بكل المجتمع الدولي، باعتبار أن الدخول في أي تصعيد خلال المرحلة الراهنة لن يكون المتضرر منه اليمنيون فقط، وهي رسالة وجهتها صنعاء للخارج أكثر من مرة لكي يستوعب بأن الضرر سيعم الجميع.
وعلى الرغم من كل الأخطار والتحديات- جدد الرئيس المشاط التأكيد على مواصلة المشوار مع كافة الأحرار في محافظة حجة، وكل محافظات الجمهورية لتحويل التحديات إلى فرص، وإيجاد حلول لتجاوز الصعوبات والعراقيل، التي يفتعلها العدو.
الرئيس أكد أيضا أن الشعب اليمني لن ينتظر إلى ما لا نهاية في حال لم يتمكن من تجاوز الابتزاز الأمريكي، في حين أن من يستجيب للابتزاز الأمريكي هو من سيتحمل المسؤولية.. معتبرا السعودية المسؤول الأول في ذلك، كونها من جلبت هذا الوضع لليمن ولها وللمنطقة بشكل عام.
وخلص إلى القول بأنه “تم إتاحة الفرصة للسعودية لتتمكن من الخروج من الابتزاز الأمريكي، وهو ما سبب الضبابية وتأخير المفاوضات في المرحلة الأخيرة”.. لافتا إلى أن السعودي هو المعني بقراره، وإذا قرر أن يخضع مجددا للابتزاز الأمريكي والبريطاني فهذا شأنه، أما الجمهورية اليمنية فلا يوجد لديها ما تخسره.
وأعرب عن ثقته في قدرة الشعب اليمني على تجاوز كل هذه الصعوبات، والمضي في بناء يمن واحد موحد لكل أبنائه ويتمتع بسيادة كاملة غير منتقصة.. معتبرا ما يحدث من مستجدات في المناطق المحتلة امتدادا أو في سياق الابتزاز الأمريكي والبريطاني للسعودية كي لا تخرج من المستنقع الذي سقطت فيه، في حين أن من يقومون بهذه الاختلالات يعرفون تماما أنهم يؤدون دورا وظيفيا ليس إلا.
وفي سياق حديثه عن مستجدات المحافظات المحتلة، أكد الرئيس المشاط لكل أبناء الشعب اليمني بأن من أُوكلت اليهم مهمة تنفيذ التحركات الأخيرة في الحبيبة عدن، إنما يؤدون دورا وظيفيا ليس إلا؛ ولذلك فان الوحدة اليمنية باقية ولا قلق عليها.. مجددا التأكيد على التوجه والمضي قدما في بناء يمن واحد وموحد بكل أبنائه ولكل أبنائه، وبسيادة كاملة غير منتقصة، يمن مستقل ومستقر.
هذا ويعاني أكثر من مليون موظف من انقطاع رواتبهم منذ ثمان سنوات جراء تداعيات العدوان والحصار الأمريكي السعودي الإماراتي على البلد، وإقدام المرتزقة بإيعاز أمريكي سعودي على نقل وظائف البنك المركزي إلى عدن وقطع مرتبات موظفي الدولة منذ ذلك الحين.
اقدم تحالف العدوان ومرتزقته على نقل البنك المركزي اليمني إلى عدن في العام 2016م، واتهمت حكومة المرتزقة صنعاء بتحويل أموال البنك إلى المجهود الحربي، وهي تهمة وجد مراقبون دوليون وجماعات إغاثة أنها لا أساس لها من الصحة، كما وعدت حكومة المرتزقة بالحفاظ على سياسة البنك المتمثلة في دفع رواتب جميع الموظفين العموميين، الذين يقدر عددهم بأكثر من مليون موظف يعولون أكثر من 10 ملايين آخرين، لكنها خرقت كلمتها، وتنصلت عن التزاماتها وحرمت ملايين اليمنيين من مصدر دخلهم الوحيد.
في المقابل ترى القيادة في صنعاء بأن عائدات صادرات النفط الواقعة جميعها في المناطق الخاضعة لحكومة المرتزقة التابعة للعدوان والتي تمثل ما يقرب من 70 في المائة من ميزانية اليمن، يجب أن تخصص لدفع رواتب جميع الموظفين، ولا يمكن القبول بأي دبلوماسية من شأنها استمرار تحويل أموال الموظفين إلى الرياض، خصوصا وأن هذه المطالب ستفيد الموظفين والعمال اليمنيين وليس حكومة صنعاء نفسها، ومن غير المنطقي أو الواقعي الاستمرار في حرمان ملايين الموظفين من رواتبهم وإفشال مفاوضات حل الملف الإنساني نزولا عند رغبة الأمريكي.
ويتساءل الكثير من المراقبين ومعهم موظفو الدولة وأبناء الشعب اليمني عامة عن أسباب العرقلة الأمريكية لكل جهود معالجة الملف الإنساني وخاصة ما يتعلق بدفع المرتبات، بعد أن توصلت المباحثات الأخيرة في صنعاء بوساطة عمانية إلى توافقات على صرف مرتبات الموظفين في عموم اليمن.
وكان المبعوث الأمريكي “تيم ليندركينغ” عبر في تصريحات صحافية عن استياء بلاده من موافقة السعودية المبدئية على دفع مرتبات الموظفين في مختلف محافظات اليمن من إيرادات النفط اليمني، واعتبره “تنازلاً يضر بالمصالح الأمريكية في المنطقة”.
وتزامنا مع ذلك كشف مصدر في حكومة الإنقاذ الوطني عن عرقلة الولايات المتحدة الأمريكية اتفاق صرف مرتبات الموظفين الحكوميين من عائدات النفط والغاز، في ظل مطالبات صنعاء بسرعة صرفها، حيث مارست الإدارة الأمريكية ضغوطات على السعودية وحكومة المرتزقة الموالية لها ساهمت في تأخير تنفيذ التوافقات الأخيرة على صرفها، حيث كان من المفترض أن جولة المفاوضات المباشرة التي عقدت في صنعاء مع الوفد السعودي بوساطة عُمانية الشهر الفائت، قد حسمت هذا الملف.
المصدر الحكومي أشار إلى أن هذه الضغوطات جاءت بشكل مباشر عبر المبعوث الأمريكي ومكتب علاقات الشرق الأوسط في الخارجية الأمريكية، والذي يبدو أن السعودية انصاعت لهذه الضغوط حتى الآن، خصوصا وأن المبعوث الأمريكي، توجه إلى الرياض فور عودة وفدها من صنعاء.
وبحسب مصادر مطلعة فقد أجرى “ليندر كينغ” مباحثات مع السفير السعودي محمد آل جابر، الذي قاد مفاوضات بلاده المباشرة مع صنعاء، معترضا بشكل علني على ربط صرف مرتبات الموظفين بعائدات مبيعات النفط والغاز.. زاعما بأن بلاده ستستخدم ما سماها “القوة الديبلوماسية” لحل الأزمة في اليمن على نحو دائم.
شكلت المباحثات الرسمية بين الرياض وصنعاء إرباكا سياسيا للإدارة الأمريكية، خصوصا أنها جاءت في إطار منحى سياسي جديد تبنته الرياض شمل التقارب مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وسوريا وإعادة الأخيرة إلى الجامعة العربيّة، ما دفع بالإدارة الأمريكية إلى إطلاق المخاوف وتحذير السعودية مما اسمته مغبة التقارب مع إيران وسوريا وصنعاء وهي الملفات التي لطالما استثمرتها لجني تريليونات الدولارات من الخزينة السعودية والخليج عموما، ووفرت لها الذريعة للتدخل في شؤون دول منطقة الشرق الأوسط والتي تعتبرها منطقـة نفوذ تحظى بأهمية استراتيجية تمكنها من فرض أجندتها وأطماعها التي تهدد وجود هذه الشعوب ومستقبلها وهويتها وفي مقدمتها ترسيخ التبعية والتخلف والفوضى والتجزئة على المنطقة والسيطرة على منابع النفط فيها، وعدم السماح لروسيا والصين بالوصول إلى مصادر الطاقة والموارد الطبيعية والسوق المهمة لتصريف منتجاتهما، إلى جانب الهدف الأمريكي الاستراتيجي في الحفاظ على أمن ومصالح حليفـتها الاستراتيجية إسرائيل.
وكانت السعودية أبلغت ما يسمى “المجلس الرئاسي” التابع للعدوان عبر سفيرها “آل جابر” عن موافقتها على مطالب صنعاء المتصلة بالملف الإنساني وعلى رأسها صرف مرتبات جميع الموظفين، إلى جانب توسيع وجهات مطار صنعاء الدولي وفتح موانئ الحديدة، والطرقات الرابطة بين المدن، ما دفع الأمريكي للتحرك وممارسة الضغط والابتزاز على السعودية وإطلاق الوعود الكاذبة لثنيها عن المضي قدما في تنفيذ التوافقات المبدئية على حل الملف الإنساني في اليمن، وهي مناورة غير فعالة وأثبتت فشلها طيلة السنوات الماضية عندما فشلت الولايات المتحدة في تزويد المملكة بأسلحة دفاعية تقيها الهجمات الصاروخية والطيران المسير.
قبلت السعودية بالهدنة والدخول في مباحثات مباشرة مع صنعاء بعدما أدركت في وقت متأخر أنها تخسر كثيرا في مستنقع باهظ الثمن، وأن أمريكا وغيرها من قوى الهيمنة هي المستفيد من حربها العدوانية والعبثية على اليمن، ما دفعها للبحث عن مخرج يجنبها المزيد من الضربات الصاروخية وهجمات الطائرات المسيرة القادمة من اليمن في ظل تنامي القدرات الدفاعية والهجومية لصنعاء، إلا أن الابتزاز والضغوطات الأمريكية ستعيدها على ما يبدو إلى مربع الاستهداف ونزيف الخسائر الاقتصادية الباهظة، والتي قد تطال أيضا مصالح واشنطن في حال تفجر الوضع، وتسبب في إغلاق ممرات ملاحية مهمة لأسواق النفط العالمية.