ذكاء اصطناعي يواسي البشر فهل يمنعهم من الحزن؟

 يعد الفقدان واحداً من أصعب التجارب التي يمر بها البشر، وحتى اللحظة لم تستطع البشرية إيجاد علاج ناجع لآلام الفقد التي تصل إلى درجة المرض أو الجنون أو الموت من وطأة الحزن، وما زاد التقدم التكنولوجي الأمر إلا تعقيداً، بخاصة في عصر الحفظ والتخزين الرقمي، فالراحلون يتركون خلفهم كماً من الرسائل والصور والذكريات المشتركة الموثقة على مواقع التواصل الاجتماعي ويصبح وجودها مع الوقت مثل الملح الذي يؤجج الجراح.

لكن في المقابل تسعى التكنولوجيا التي تعمل بالذكاء الاصطناعي إلى تطوير “أفاتارات” للأشخاص المتوفين وحفظ ذكرياتهم في محاولة لمساعدة أقاربهم وأحبائهم في تجاوز الحزن، ففي كل جيل خلقت التكنولوجيا وسيلة جديدة لإحياء ذكرى الموتى والتواصل معهم. فهل يمنع الذكاء الاصطناعي البشر من الشعور بالحزن؟ وهل يمكن اعتباره حلاً ناجعاً للمشكلة أم أنه يخلق مشكلات أخرى أعمق؟

ماذا يقدم الذكاء الاصطناعي؟

أصبحت هناك طرق عدة للتعامل مع الحزن افتراضياً، منها روبوتات المحادثة التي من الممكن أن توفر الدعم العاطفي والرفقة اللطيفة للأشخاص الذين يعانون الحزن، كما يمكن برمجتها لفهم طيف واسع من الأحاسيس والاستجابة لها ويمكن استخدامها كوسيلة للتحدث عن المشاعر والذكريات.

وهناك ما يسمى الذكريات المنشأة بواسطة الذكاء الاصطناعي التي تسمح للناس بخلق ذكريات جديدة مع أحبائهم المتوفين عبر التقاط صور ومقاطع فيديو للراحلين واستخدامها لإنشاء تجربة واقع افتراضي تحاكي يوماً يقضونه معهم، أما الفن المولد بالذكاء الاصطناعي، فيقوم بتحليل صور ومقاطع فيديو لشخص ما لإنشاء لوحة أو منحوتة تعبر عنه، وأخيراً يقدم الذكاء الاصطناعي آلية لعلاج الحزن تستخدم لتقديم مشورة ودعم شخصي للحزانى، إذ يمكن لأنظمة الذكاء الاصطناعي تحليل الحال العاطفية للشخص وتقديم توصيات مخصصة للتعامل معها.

عام 2016 اكتشف جيمس فلاهوس أن أيام والده باتت معدودة بسبب سرطان الرئة، ومع إدراكه أن الوقت الذي يقضيه معه بدأ ينفد، اندفع لجمع وتسجيل ذكريات وقصة حياة والده كاملة متضمنة كل شيء حرفياً، من ذكريات الطفولة إلى أقواله وأغانيه ودعاباته المفضلة وطريقته بالسؤال وغيرها، ملأت هذه التسجيلات نحو 200 صفحة.

لكن على رغم جمال الفكرة إلا أن فلاهوس وجد بها مصدراً جامداً، وأصبح لديه شغف لتحويله إلى شيء تفاعلي، فقام ببرمجة نسخة تشات بوت طبق الأصل من والده سماها Dadbot، وتمكن من إحياء قصص والده عبر الرسائل النصية والصوت والصور والفيديو، مولداً تجربة تفاعلية تحاكي الفروق الدقيقة الفريدة لوالده، ألهمته في ما بعد بفكرة تطبيق HereAfter AI الذي يسمح للأشخاص بتحميل ذكرياتهم ليتم تحويلها إلى صورة رمزية يمكن للأصدقاء والعائلة التواصل معها، على عكس ألبوم الصور الجامد أو الملف الشخصي الخامد على “فيسبوك” مثلاً.

وفي حين أن هذه النسخة الاصطناعية لا يمكن أن تحل محل والد فلاهوس الحقيقي، إلا أنها أعطته بعض العزاء كما منحته طريقة لتذكره بشكل أكثر عمقاً.

ليست بديلاً

والنتيجة التي خلص إليها مستخدمو هذه التقنيات وإن تشابهت بحصولهم على بعض العزاء، إلا أن الجميع يتفق على أنها لا يمكن أن تكون بديلاً لأحبائهم، وفي هذا السياق يقدم برنامج الخيال العلمي البريطاني “المرآة السوداء Black Mirror” مجموعة حلقات تحكي قصصاً مختلفة تتعلق بعلاقتنا مع التكنولوجيا، وتروي إحدى حلقاته Be Right Back)) قصة امرأة توفي صديقها في حادثة سيارة، فلجأت إلى تكنولوجيا يمكنها استخدام محتويات وسائل التواصل الاجتماعي الخاصة بصديقها لإنشاء نسخة تفاعلية منه، لكنها تكتشف مع الوقت أنه لا يمكن للنسخة أن تكون بديلاً عن الأصل، والأهم أن ليست لديها صفات صديقها السلبية، كما أنها تفعل ما تطلبه منها من دون سؤال، ثم تدريجاً كرهت السيدة النسخة وأيقنت أنها لا يمكن أن تكون صديقها أبداً.

أورفيوس ويوريديس

يعاني الناس بشكل متفاوت كيفية التعامل مع الموت، والحقيقة أن ليس هناك أحد يمتلك طريقة ناجعة للتعامل مع المشاعر المتولدة، لذلك يتحدث الناس كثيراً عن الموتى ويروون قصصهم وينظرون طويلاً إلى صورهم محاولين تجاوز الألم، ويمكن أن يشعر بعضهم عند فقدان شخص ما كما لو أنه فقد جزءاً من نفسه، فيما يريد كثيرون استعادة هذا الشخص بأية طريقة.

وقصص تخليص الراحلين من الموت هي جزء من تقليد طويل من رواية القصص، وأشهرها الأسطورة اليونانية القديمة “أورفيوس ويوريديس”، إذ كانت تجمع أورفيوس الشاعر والموسيقي الشهير وزوجته يوريديس قصة حب خالدة، وبحسب الأسطورة ألف لها أورفيوس موسيقى جميلة لدرجة أنها أبكت الآلهة ذاتها.

وتبدأ القصة بإصابة أورفيوس بحزن على وفاة يوريديس، وصل إلى درجة أنه قرر الرحيل إلى العالم السفلي حيث أرض الموتى ليقنع بموسيقاه الآلهة بأن تحرر يوريديس. وافقت الآلهة على أن ترجع زوجته معه بشرط أن يمشي إلى عالم الأحياء من دون النظر خلفه حتى تخرج إليه من الظلام وإلا ستبقى في أرض الأموات، لكن أورفيوس المتشكك والملهوف لرؤيتها لم يستطع المقاومة، وحين نظر خلفه اختفت، وبذلك أصبح حزنه أكبر مما كان عليه أول الأمر، إذ ضاع أمله الأخير ولم يعد يجد العزاء في أي شيء على الأرض، وبعض الروايات تتحدث عن أنه أقدم على الانتحار في النهاية حتى ينتقل إليها.

هذه القصة الأسطورية بمثابة تحذير من التفكير كثيراً في الماضي ومغزاها أن الأموات ماتوا وتمني ألا يموتوا سيؤذي الأحياء ويمنعهم من عيش حياتهم.

مثير للجدل

من جهة أخرى، لا تزال هناك مخاوف في شأن هذا النوع من التكنولوجيا، فربما نتمكن يوماً ما من عمل نسخة افتراضية واقعية لشخص معين، لكن في الوقت ذاته يمكن أن تصبح للأحياء نسخة افتراضية أيضاً، الأمر الذي سيزيد الأمر سوءاً، لذا يعد استخدام الذكاء الاصطناعي لدعم الحزن موضوعاً معقداً ومثيراً للجدل، وهناك آراء وحجج مؤيدة وأخرى معارضة لاستخدامه في هذا السياق.

إحدى الحجج المؤيدة هي أنه يمكن أن يوفر خدمة قيمة للأشخاص الذين يعانون الحزن وقد لا يتمكنون من الوصول إلى الدعم البشري، فتوفر روبوتات الدردشة مثلاً الدعم العاطفي لأولئك الذين يعيشون في مناطق نائية أو منعزلة، كما باستطاعتها أن توفر مشورة شخصية لأولئك الذين يترددون في طلب المساعدة من مستشار بشري.

يجادل آخرون بأن استخدام الذكاء الاصطناعي لدعم الحزن أمر غير أخلاقي لأنه يقوم بالتقليل من التعقيدات العاطفية والنفسية، كما أن الحزن يختلف من شخص لآخر، فبالنسبة إلى بعض الأشخاص رؤية شخص يحبونه في الواقع الافتراضي سيشعرهم بمشاعر قاسية ومؤلمة، وبالنسبة إلى آخرين ربما يكون الأمر مفيداً جداً، كأن يساعدهم مثلاً على فعل شيء لم يكونوا قادرين على فعله.

إضافة إلى ذلك، يمكن أيضاً اعتبار استخدام الذكاء الاصطناعي شكلاً من أشكال الاستعانة بمصادر خارجية عاطفية، بحيث يعتمد الناس على التكنولوجيا بدلاً من الاتصال البشري، فقد لا تكون تلك الأنظمة قادرة على فهم أو الاستجابة للفروق الدقيقة في المشاعر البشرية، بالتالي تضر أكثر مما تنفع، أو على توفير مستوى التعاطف الذي يمكن أن يوفره المستشار البشري أو الشخص الداعم.

وهناك قلق أخلاقي آخر يتعلق بالخصوصية وأمن البيانات، إذ يعد الحزن أمراً شخصياً وحساساً للغاية ويجب التعامل مع البيانات التي يشاركها الأشخاص مع أنظمة الذكاء الاصطناعي بعناية فائقة، فمن الضروري ضمان عدم مشاركتها أو استخدامها لأغراض أخرى.

وأخيراً، من الضروري كذلك ملاحظة أن الذكاء الاصطناعي وإن كانت لديه القدرة على تغيير الطريقة التي نحزن بها، إلا أنه لا يمكن أن يصبح بديلاً للتفاعل البشري، كما أن الحزن تجربة شخصية وأفضل طريقة للحزن هي الطريقة التي يشعر فيها الفرد بأنها حقيقة وذات مغزى بالنسبة إليه، كما أن التعامل مع ما تبقى رقمياً لشخص ما سيفتح بوابة الحنين إلى الماضي لا أكثر، فهي في النهاية فارغة ومهملة كمنزل بارد مهجور.

الانديبندنت

قد يعجبك ايضا