الجالية العربية المسلمة في كولومبيا.. هجرة بدأت قبل أكثر من 150 عاماً
Share
ربما تمثل الجالية المسلمة في كولومبيا أقلية، لكن حضورهم أصبح ملموساً، فمتى بدأت هجرة العرب إلى البلد الأمريكي اللاتيني؟ ومن أي بلاد العرب هاجروا؟ وكيف هي أحوالهم اليوم؟
بشكل عام، تُعتبر أمريكا اللاتينية موطناً لأكبر الجاليات العربية، إذ يبلغ تعداد الجالية الفلسطينية نحو 700.000 شخص، يعيش منهم نحو 100.000 في السلفادور تحديداً. ووطئ العرب أرض أمريكا اللاتينية لأول مرة أواخر القرن الـ19، عندما بدأت الإمبراطورية العثمانية تشهد نزوحاً جماعياً ضخماً لسكانها.
كما أن أكثر من 1.6 مليون فنزويلي ينحدرون من أصل عربي، نحو مليون منهم من سوريا، بلغوا أعلى المناصب في الدولة الأمريكية، وتمثل الجالية السورية في فنزويلا قصة نجاح متميزة.
وتناول موقع ميدل ايست اي البريطاني أوضاع الجالية المسلمة في كولومبيا، والتي تمثل أقلية، وهو أمر غير صادم داخل بلد كاثوليكي في المقام الأول، وربما تنمو الجالية المسلمة بوتيرةٍ بطيئة، لكنها تواصل النمو بثبات.
ويبلغ عدد المساجد في العاصمة الكولومبية بوغوتا الآن ستة، بعد أن كانت بوغوتا تحتوي على مسجدٍ واحدٍ فقط عام 2007، كما يتواجد المسلمون في العديد من مراكز العاصمة الحضرية الرئيسية.
ويتمتع عرب المهجر بتاريخٍ طويلٍ في كولومبيا، حيث وصلت أول موجة من المهاجرين العرب إلى البلاد في أواخر القرن الـ19. إذ أبحر المهاجرون من أراضي لبنان، وسوريا، وفلسطين بحثاً عن ثروات أكبر في الأمريكتين. وانتهت رحلات هجرتهم في مختلف أرجاء الكاريبي، ويُعتقد أن الفترة ما بين 1860 و1914 قد شهدت انتقال نحو 1.2 مليون عربي للإقامة في أرجاء أمريكا.
وتسللت أقليةٌ ما إلى كولومبيا بصورةٍ تدريجية، حيث كان غالبيتهم من اللبنانيين الذين استقروا بنسبةٍ كبيرة في المدن الشمالية، مثل بارانكيا ومايكاو. وتشير التقديرات إلى انتقال ما يتراوح بين 10 آلاف و30 ألف مهاجر لبناني إلى كولومبيا، وذلك بين عامي 1880 و1930.
وأوضح دييغو كاستيلانوس، الأكاديمي الكولومبي الذي يدرس الجاليات المسلمة في أمريكا اللاتينية لدى مركز أبحاث French Institute for Anatolian Studies: “كانت أعداد المهاجرين العرب إلى كولومبيا مع نهاية الإمبراطورية العثمانية صغيرةً نسبياً، وقد فقدوا الكثير من عاداتهم وتقاليدهم. وكانت الجماعات الموجودة في كولومبيا صغيرةً للغاية بدرجةٍ حرمتها من تحقيق الاستمرارية”.
لكن تلك الاستمرارية جاءت بعدها بفترةٍ مع وصول الموجة الثانية من المهاجرين اللبنانيين، الذين حطوا الرحال على الشواطئ الكولومبية خلال السبعينيات. حيث اختار العديد منهم الرحيل عن بلادهم التي عصفت بها حرب أهلية وحشية، وذلك أملاً في عيش حياةٍ أفضل.
واستقر الكثير من الوافدين الجدد في مايكاو، وهي مدينة صحراوية صغيرة تقع قرب الحدود الفنزويلية في شمالي كولومبيا. وأوضح كاستيلانوس للموقع البريطاني: “يكمُن سر الجاذبية التي قادت الكثيرين إلى مايكاو في أن المدينة كانت لا تزال في طور النمو. وقد بدأ اللبنانيون ينظرون إلى مايكاو كخيار بفضل سهولة الوصول إليها وبدء الإنتاج الاقتصادي فيها. حيث ساعدهم أقاربهم على الاستقرار والمساهمة في الاقتصاد المحلي هناك”.
وسرعان ما تحولت مايكاو إلى بؤرةٍ للجالية العربية والمسلمة داخل كولومبيا. إذ تصادف تدفق المهاجرين من لبنان مع الطفرة النفطية الفنزويلية في السبعينيات، مما سمح للمدينة الحدودية بالازدهار اقتصادياً. وتحولت الأعمال التجارية العربية إلى سمة مألوفة ومتزايدة الأهمية من سمات شوارع مايكاو التجارية المزدحمة، بدايةً بأعمال المنسوجات ووصولاً إلى العطور والأجهزة المنزلية.
واستمر ذلك النمو الثابت على مدار العقدين التاليين لتبلغ الجالية العربية ذروتها في التسعينيات، حيث شكلت ما يتراوح بين 5.000 و8.000 نسمة من سكان المدينة الصغيرة، حسب التقارير المتداولة.
وقال ناصر جبرة، رجل الأعمال اللبناني الذي وصل إلى مايكاو عام 1987: “كانت مايكاو تتمتع بالتجارة الحرة خلال التسعينيات، وكان حجم العمل والفرص أكبر. إذ كانت تضم جاليةً (عربية) كبيرة بحق”.
وكانت الجالية العربية والمسلمة قويةً وكبيرة في مايكاو، لدرجة أن المدينة شهدت بناء مسجدٍ بارز على أراضيها عام 1997، ليصبح مصدر فخر وسعادة للجالية المسلمة المحلية وهو المسجد الكولومبي الوحيد الذي يمتلك رخصةً لرفع الأذان علناً من منابره.
كما تستضيف مايكاو مدرسة دار الأرقم، التي تتمحور مناهجها الدراسية حول اللغة العربية والدين الإسلامي. وخلال التسعينيات، كان عدد طلاب المدرسة يتراوح وفقاً لمديرها بين 800 و1.200 طالب -وغالبيتهم العظمى من ذوي الأصول العربية.
علاوةً على أن مايكاو هي المكان الأول والوحيد الذي يحكمه عمدة مسلم داخل كولومبيا، حيث انتُخِبَ الكولومبي اللبناني محمد جعفر الدسوقي لهذا المنصب عام 2020.
جلب النمو الاقتصادي معه درجةً عاليةً من غياب القانون، إذ كان ازدهار مايكاو جامحاً، وكانت عمليات عبور الحدود -للأفراد والبضائع- تتم دون تفتيش عادةً. وسرعان ما نشأت شبكة حيوية من الأنشطة الاقتصادية غير المشروعة داخل المجتمع السري لمايكاو، وذلك طوال الثمانينيات والتسعينيات.
يقول كاستيلانوس: “إن وضعية المدينة على الحدود مع فنزويلا تعني أن الكثير من التجارة المشروعة تمر عبرها، لكن هذا جعلها نقطة التقاء لكافة الأنشطة الاقتصادية الحدودية غير المشروعة بين كولومبيا وفنزويلا أيضاً. حيث بدأت تنمو أنشطة تهريب المخدرات، وغسيل الأموال، وتهريب البضائع المحظورة. ولم يكن في وسع الدولة فرض رقابة حقيقية”.
وأدت تلك النوعية من التجارة إلى زيادة معدلات الإجرام. إذ اندلعت المعارك بين الجماعات المسلحة من أجل السيطرة على المنطقة في منتصف التسعينيات، وكانوا يتجهون عادةً إلى خطف وابتزاز أبرز أبناء مجتمع الأعمال في مايكاو. وتعرضت الكثير من الأعمال التجارية في المدينة للاستهداف خلال تلك المرحلة، بما في ذلك الجالية العربية في المنطقة.
وتوقف نمو الجالية العربية في مايكاو بعدها بفترةٍ قصيرة. إذ تعطلت الكثير من الأنشطة الاقتصادية العابرة للحدود عقب الانهيار الاقتصادي في فنزويلا مطلع القرن الجاري، علاوةً على زيادة اللوائح الحكومية المتعلقة بالواردات المحلية وعبور الحدود، مما قيّد النمو الاقتصادي أكثر.
وسرعان ما جفت ينابيع الفرص الاقتصادية المتضائلة، التي جذبت الكثير من العرب إلى مايكاو في المقام الأول. بينما أدى عنصر انعدام الأمن المتزايد إلى دفع الكثيرين للفرار من المدينة، بهدف الاستقرار في مكانٍ آخر.
ويُمكن القول إن أزمة فنزويلا الاقتصادية الجارية تركت مايكاو -وجاليتها العربية التي كانت مزدهرةً ذات يوم- في حالةٍ من الركود.
ويتجلى ذلك بالنظر إلى عدد الطلاب الحاليين في مدرسة دار الأرقم. إذ بلغ عددهم 147 طالباً في العام الماضي، أي ما يعادل عُشر الرقم المسجل في أيام ازدهار الجالية.
كما تراجع تعداد السكان العرب في المدينة إجمالاً. حيث تشير التقديرات إلى أن عدد العرب في مايكاو لا يتجاوز الـ1.000 نسمة حالياً. إذ اتجه بعض العرب إلى مدينة بارانكيا الكولومبية الساحلية، التي تقطنها جالية عربية صغيرة. بينما خاض البعض الآخر مغامرةً في الكاريبي أو بنما، واجتاز آخرون الحدود إلى فنزويلا. فيما عاد البعض إلى موطنه في لبنان، أو إلى مناطق أخرى من الشرق الأوسط.
وقال الكولومبي بيدرو ديلغادو، باحث شؤون الجالية العربية المحلية الذي اعتنق الإسلام: “أرى أن المجتمع في أزمة. كانت مايكاو مهمةً للغاية في الماضي بالنسبة لسكان البلاد من المسلمين والعرب. لكن الأوضاع الاقتصادية والأمنية دفعت بالناس إلى الذهاب لأماكن أخرى. لهذا فقدت مايكاو مكانتها كممثلةٍ للجالية العربية”.
بينما قال جبرة: “نأمل أن تنتعش الأمور ثانيةً، ولهذا بقينا هنا وتحملنا هذا الوضع الصعب. نأمل أن تعود الحياة لمجاريها مرةً أخرى حتى نعاود النمو من جديد”.