في 10 أبريل/نيسان 2003 اقتحمت مجموعة من اللصوص المتحف الوطني العراقي في العاصمة بغداد. كان الموظفون قد أخلوا أماكن عملهم قبل يومين، أي قبل دخول القوات الأميركية إلى العاصمة، وتعرّض المتحف للنهب على مدار الساعات الـ36 التالية.
وبعدما عاد الموظفون إلى عملهم، أظهروا شجاعة هائلة وتمكنوا من نقل وتخزين 8366 قطعة أثرية بأمان قبل نهبها، بعد الاستيلاء على نحو 15 ألف قطعة في أقل من يومين.
وعلى الرغم من استعادة 7 آلاف قطعة، لا يزال هناك ما يزيد على 8 آلاف أخرى مفقودة، من بينها قطع أثرية تعود لآلاف السنين من بعض أقدم المواقع في الشرق الأوسط، حسب مقال سابق لكريج باركر مدير التعليم بمتاحف جامعة سيدني الأسترالية.
ومن المفارقات أنه بعد مرور قرون على نهب العديد من بقايا هذه القطع الأثرية والثقافية القديمة من قبل القوات الأوروبية من أجل ملء المتاحف الوطنية الكبرى في حقبة الاستعمار، فإننا بصدد مشاهدة نسخة القرن الـ21 من الاستعمار الثقافي، إذ يعطي جامعو الآثار الفرصة لنمو اقتصاد كامل قائم على أنشطة غير مشروعة، كما يقول الكاتب الأسترالي.
وبعد 20 عاما من نهب المتحف الوطني العراقي، يعود البهاء للموقع الكائن وسط العاصمة بغداد وتبدو الرحلة للمتحف كأنها رحلة عبر الزمن تمتد على آلاف السنين، كما يقول عادل فاخر مراسل الجزيرة الإنجليزية في بغداد.
خلف بوابات المتحف سيعيش تراث بلاد ما بين النهرين بحضاراتها السومرية والآشورية والبابلية والأكادية. وإذ تثير المنحوتات الإعجاب الكبير، فإنها مجرد جزء محدود من تراث العراق العريق الذي دمرته سنوات من الدمار والنهب، وهي قضية تعمل الدولة العراقية على التعامل معها.
شهدت السنوات التي أعقبت غزو الولايات المتحدة للعراق في عام 2003 سرقة أعداد كبيرة من الآثار، سواء من المتاحف مثل المتحف الوطني العراقي، أو بسبب الحفريات غير القانونية في المواقع الأثرية في جميع أنحاء البلاد في ظل حالة فوضى أمنية.
وتغيب الأرقام الرسمية عن رصد نزف الآثار العراقية المهربة خارج البلاد.
كذلك دُمّرت بعض الروائع الأثرية، لا سيما أثناء صعود تنظيم الدولة الإسلامية بعد عام 2014، فقد حطم تماثيل ومجسمات أثرية في متحف الموصل بمحافظة نينوى (شمال) كما نهب القطع النفيسة من المتحف وهربها إلى الخارج.
وجرف التنظيم مواقع أثرية مهمة، بينها مدينة النمرود (30 كلم جنوب الموصل) التي يعود تاريخها للقرن 13 قبل الميلاد، وتعد من أهم المواقع الأثرية بالعراق والشرق الأوسط.
و”النمرود” هي التسمية المحلية بالعربية لمدينة كالخو (كالح) الآشورية التي بنيت على نهر دجلة على يد الملك الآشوري “شلمنصر الأول” وكانت عاصمة الحكم خلال الإمبراطورية الآشورية الوسيطة.
جهود الاستعادة
ويؤكد حكيم الشمري، المدير الإعلامي للهيئة العامة للآثار والتراث في وزارة الثقافة العراقية، أن جهود استعادة الآثار المسروقة مستمرة. وأضاف: “نعمل على إعادة هذه القطع إلى موطنها الأصلي وفق الاتفاقيات الدولية التي تؤكد ضرورة إعادة الممتلكات الثقافية لأصحابها”.
وتابع قائلا إن “العراق تمكن في السنوات الأخيرة من استعادة نحو 17 ألف قطعة أثرية من الولايات المتحدة و364 من لبنان”، ويقدر العدد الإجمالي للآثار المنهوبة بالآلاف، مؤكدا أن العمل جار لاستعادة الآثار من دول أخرى.
وأعلنت الرئاسة العراقية أخيرًا إعادة 9 قطع أثرية مسروقة من الولايات المتحدة، بما في ذلك 7 أختام تعود إلى العصر البابلي، وقطعة من العاج على شكل وجه بشري، ولوح طيني من العصر البابلي الأوسط.
وسبق ذلك استعادة آلاف القطع دفعة واحدة بعد حكم قضائي أميركي في يوليو/تموز عام 2017 ألزم شركة “هوبي لوبي” بأن تعيد القطع التي تعود إلى حقبة بلاد ما بين النهرين، والتي صُدّرت إلى الولايات المتحدة بطريقة غير قانونية، وتقدر بالآلاف.
نجاح جزئي
وبينما حظي نجاح الحكومة في إعادة بعض الآثار ببعض الإشادة، لا يزال هناك كثير من العمل الواجب إتمامه، حسب حيدر فرحان أستاذ فلسفة علم الآثار في جامعة بغداد وخبير الآثار.
ورأى فرحان أن محاولات الحكومة العراقية للتفاوض لاستعادة الآثار المسروقة إيجابية، واستدرك قائلا “لكن هذه المحاولات لا تفي بالتوقعات بشكل كامل.. والذي تحقق هو نجاح جزئي”.
وتابع فرحان “لا توجد إحصائيات رسمية عن عدد الآثار المسروقة من المتحف العراقي، والأرقام الواردة في الحقيقة غير دقيقة وغير كاملة عند النظر إلى الجرد الرسمي لمقتنيات المتحف العراقي”.
ولم ترد وزارة الخارجية العراقية، المسؤولة عن إعادة الآثار العراقية من مختلف أنحاء العالم، على أسئلة وجهتها الجزيرة الإنجليزية، لكن وزير الخارجية فؤاد حسين صرح في وقت سابق بإعادة 18 ألف قطعة أثرية مهربة إلى العراق، وأعرب عن أمله في أن يساعد التعاون والتنسيق الدوليان في إعادة جميع القطع الأثرية المسروقة.
وقال مكتب منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) في بغداد -للجزيرة الإنجليزية- إنه يعمل مع الحكومة العراقية لاستعادة أكثر من 40 ألف قطعة أثرية متناثرة في أنحاء العالم، إضافة إلى 30 ألف قطعة استعيدت بالفعل، بين عامي 2017 و2022.
ويُحتفظ بالقطع الأخرى في السفارات العراقية ومراكز إقراض الآثار في جميع أنحاء العالم إلى حين العثور على مراكز تخزين مناسبة في العراق.
مسؤولية أميركية
ويرى العديد من العراقيين أن اللوم الأكبر في خسارة كثير من تاريخ بلادهم يقع على عاتق الولايات المتحدة؛ فخلال الغزو الأميركي صدرت تقارير تفيد بأن المسؤولين الأميركيين كانوا محبطين بسبب عدم استعداد الجنرالات العسكريين لحماية المواقع الأثرية، مثل المتحف الوطني العراقي.
ويقول الباحث الأثري عامر عبد الرزاق إن الإهمال كان متعمدا، وإن الدبابات الأميركية حاصرت المتحف العراقي إبان الاحتلال والفوضى، لكنها لم تحرك ساكنا في وجه العصابات واللصوص الذين هاجموا المتحف وسرقوا منه نحو 14 ألف قطعة ثمينة.
وعلى الرغم من أن الجيش الأميركي التزم لاحقًا بحماية الآثار بسبب ضغوط المؤسسات الأثرية العراقية، فقد حوّل في البداية المواقع الأثرية إلى قواعد ومعسكرات لقواته كما في مدينة أور بمحافظة ذي قار إذ وضع معداته العسكرية الثقيلة في الموقع الأثري “زقورة أور”، حسب قول عبد الرزاق.
وأضاف عبد الرزاق “حوّل الجيش الأميركي مدينة بابل الأثرية إلى قاعدة عسكرية، لدرجة أنهم صنعوا أكوامًا من التراب بعضها من أجزاء من اللوحات الطينية المسمارية”، وأردف “الأمر نفسه ينطبق على مدينة نمرود في الموصل والمواقع الأثرية الأخرى في جميع أنحاء البلاد”.
ومع أن الولايات المتحدة أعادت بالفعل آلاف القطع الأثرية إلى العراق، فلا تزال غير كافية، برأي عبد الرزاق.
وختم بالقول إن “ما استردّ هو جزء صغير”، ولا تزال هناك قطع تباع في مزادات في الولايات المتحدة وبريطانيا ودول أخرى، و”نحن بحاجة إلى جهود دبلوماسية أكبر وتعاون دولي”.