شح المياه يهدد مستقبلنا.. كيف نستعد للجفاف القادم؟

إنه عام 2075، الجفاف ضرب الأرض ولم يتبقَّ من ماء البحار والأنهار سوى القليل. السماء تبدو صفراء اللون، يتراص صفّ من البشر بائسي الوجوه أمام إحدى آلات صرف المياه، ويحمل كلٌّ منهم حاوية بلاستيكية فارغة في انتظار دوره للحصول على حصته طبقا لنوع البطاقة التي يحملها. بعد موجة الجفاف القاسية التي ضربت الكوكب بأسره، لم يعد للذهب والمال قيمة، وأصبحت المياه الشحيحة هي العملة الوحيدة التي يقايض بها الناس كل شيء، حتى حياتهم.

الآن، مكانتك في المجتمع تتوقف على رصيدك من المياه، ولا يمكنك الحصول على طعام جيد أو رعاية صحية مقبولة دون رصيد كافٍ في حسابك. بالطبع أصبح الاستمتاع بالسباحة في الصيف ضربا من الخيال، وأسطورة تُحكى للأطفال قبل النوم. لحُسن الحظ، هذا مجرد مشهد من مسلسل الخيال العلمي الكوري “بحر السكون” (The silent sea)، لكن بعض العلماء يرى أن الأمر قد يتخطى يوما ما حاجز الخيال التلفزيوني أو الروائي.

الجفاف قادم لا محالة

أنت الآن تجلس آمِنا في منزلك، تفتح الصنبور فيندفع منه الماء رائقا منعشا. في الخلفية، يهدر صوت غسالة الملابس الأتوماتيكية، بينما يُصدر مبرِّد المياه صوتا كقرقرة قط ناعِس. تقرأ خبرا عن الجفاف في الصومال مثلا، وتشعر بالأسف نحو ذلك الشعب المسكين الذي سيُعاني ويلات الجوع والمرض. لا يخطر ببالك لحظة أنك قد تواجه المصير نفسه يوما ما، وأنت تتذكر موعد سقاية النعناع والريحان في شُرفة منزلك، فتهرع لغمرِها بالماء وعبيرها يُزكم أنفك.

يمكننا أن نرصد عشرات الأسباب البيئية والمناخية، بل والسياسية والاقتصادية، التي ساهمت مساهمة مباشرة أو غير مباشرة في حدوث الجفاف في عدة دول حول العالم، من الولايات المتحدة وحتى أستراليا. ولكن الأمر يبدو مُلِحًّا خصوصا في دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، التي كانت دائما الحلقة الأضعف والأكثر تأثُّرا بتبعات التغير المناخي. (للمزيد اقرأ: في اليوم العالمي.. بالأرقام تعرف عن وضع المياه في العالم العربي)

يبقى السبب الأساسي والمحوري في حدوث هذه الكارثة هو الإنسان. صحيح أن سطح كوكب الأرض مُغطَّى بالمياه بنسبة 71%، ولكن نسبة المياه العذبة الصالحة للشرب لا تتخطى 3% منها. نجح البشر بامتياز في التأثير على كل موارد المياه العذبة، وأدى الاحترار العالمي والتغير المناخي إلى انخفاض نسبة الأمطار في المناطق الأكثر عُرضة للجفاف، بالإضافة إلى ذلك، فإن استهلاك الإنسان للمياه الجوفية، التي تُمثِّل 30% من المياه العذبة على الأرض، يحدث بمعدلات أسرع من قدرتها على التجدد.

أدَّى تجريف الغابات أيضا إلى تفاقم هذه المشكلة، إذ تساعد الأشجار على إرشاد مياه الأمطار إلى مواقع المياه الجوفية تحت الأرض. إذا لم يكن هذا كافيا لتهديد ما تبقَّى لنا من مياه عذبة، فإن البنية التحتية المتهالكة في معظم دول العالم تؤدي إلى هدر أطنان من المياه المُعالَجة. في ظل انخفاض أسعار المياه عالميا، حيث تُباع بسعر أقل من قيمتها الحقيقية، فلا يوجد مستثمر سيُغامر بخلق تكنولوجيا موفرة للمياه إن كانت تكلفة هذه التكنولوجيا أكبر من تكلفة المياه ذاتها. من غير المُنصف أن تُباع المياه، أكثر السلع قيمة على وجه الأرض، بأبخس الأثمان (1).

يمكننا ببعض التنقيب أن نجد أنه في القرن الحادي والعشرين فحسب، لم تترك موجات الجفاف ركنا في شرق العالم وغربه إلا وأصابته بلعناتها. في السنوات العشر الأولى من هذا القرن، ضرب الجفاف أستراليا ثم دول القرن الأفريقي (الصومال وجيبوتي وإثيوبيا)، تبعتهم الصين وفيتنام ثم جنوب الولايات المتحدة والمكسيك. ومنذ عام 2010 حتى اليوم، انضمَّت ولاية كاليفورنيا، وكيب تاون في جنوب أفريقيا، بالإضافة إلى سوريا والعراق والأردن، إلى قائمة الدول التي لا تزال تعاني من تبعات الجفاف حتى اليوم.

الصنبور المفتوح

على الرغم من أن قطاعَيْ الزراعة والصناعة يستهلكان الجزء الأكبر من المياه العذبة، بنسبة 70% و19% على التوالي، فإن جزءا لا يُستهان به من المياه يُهدر في كل دقيقة بسبب سلوكيات البشر. يختلف معدل استهلاك الفرد اليومي للماء باختلاف الدول والظروف الاجتماعية أيضا، ولكن يشترك كل سكان العالم -تقريبا- في سلوكيات متشابهة تُسيء استغلال موارد المياه. من الصعب قياس كمية الماء المستخدَم في الأنشطة اليومية بمجرد النظر، ولكن دون نشر الوعي حول هذه السلوكيات وقدر ما تُهدره من مياه، فإن التعايش في ظل نقص الموارد المائية لن يكون مهمة سهلة.

المطبخ من أهم غرف المنزل، ومن أهم مصادر هدر الماء العذب، خاصة خلال عملية غسل الصحون وترك الصنبور مفتوحا طوال مدة العملية. بالمثل فإن غسل الخضراوات والفاكهة بالماء الجاري عوضا عن نقعها في وعاء مليء بالماء ليس الحل الأمثل للحد من الهدر. من العجيب أن غسالات الصحون تستهلك قدرا أقل من الماء من غسيل الصحون اليدوي (2). يمكنك تشغيل غسالة الصحون 7 مرات بمقدار المياه نفسه الذي تهدره لغسل كمية الصحون نفسها يدويا، لكن تشغيل أيٍّ من غسالتَيْ الصحون والملابس وهي نصف ممتلئة ليس سلوكا صديقا للمياه أيضا.

لا يقل هدر المياه في دورات المياه أهمية، إذ إن ترك الصنبور مفتوحا أثناء غسيل الأسنان قد يهدر 7.5 لترات من الماء في الدقيقة الواحدة، على عكس استخدام كوب مملوء بالماء وإغلاق الصنبور. ولو قدَّرنا المياه المستهلكة في الاستحمام بواسطة “الدُّش”، فقد تصل الكمية إلى 9.4 لترات في الدقيقة الواحدة. يعني هذا أن الاستحمام لمدة 5 دقائق فحسب قد يستهلك خزان السخان كاملا إن كانت سعته 50 لترا (3). أضف إلى ذلك هدر الماء في غسل المرحاض بعد كل استخدام، الذي يستهلك نحو 8 لترات في المرة الواحدة. يعادل هذا 4 زجاجات من المياه الغازية بالحجم العائلي، مع فارق أن المياه أرخص ثمنا.

على نطاق أضيق قليلا، تُهدر المياه في غسل السيارات باستخدام الخرطوم بدلا من إسفنجة ووعاء من الماء. كما أن عادة سكب المياه على الأرصفة أمام المحلات في أيام الصيف القائظة تُعَدُّ هدرا صريحا للماء الصالح للشرب وسقاية الحيوانات والنباتات كذلك. كما أن سقاية الحدائق في ساعات الظهر الحارة تؤدي إلى تبخر المياه بمعدل أسرع والحاجة إلى إعادة العملية مرات أكثر (4). وفي النهاية، فإن الاهتمام بإصلاح الترشيح من الصنابير أو مواسير المياه أو خزان المرحاض خطوة ممتازة نحو ترشيد الهدر من المياه.

الاقتصاد والمياه

في عام 2017، حصل عالِم الاقتصاد “ريتشارد ثالر” (Richard Thaler) على جائزة نوبل بفضل نظريات الاقتصاد السلوكي التي طوَّرها. قبل ذلك بخمسة عشر عاما، حصل عالِم النفس “دانيال كانيمان” (Daniel Kahneman) على الجائزة نفسها بفضل عمله الرائد في تطبيقات علم النفس على النظريات الاقتصادية. نتج عن أعمالهما فرع من علم الاقتصاد يسمى “الاقتصاد السلوكي” (Behavioral economics) يختص بدراسة دوافع المستهلكين لاتخاذ القرارات الشرائية (للمزيد عن نظريات الاقتصاد السلوكي اقرأ تقرير ميدان: نوبل للاقتصاد 2017.. مَن سرق تذكرة السينما الخاصة بي؟).

خلال أزمة المياه التي ضربت مدينة كيب تاون (Cape town) بجنوب أفريقيا بداية من عام 2015، أجرى باحثون من جامعة كيب تاون تجربة عملية باستخدام نظريات الاقتصاد السلوكي لتغيير سلوكيات المواطنين تجاه استهلاك المياه (5). تحتل جنوب أفريقيا المركز الخامس في قائمة الدول الأكثر عُرضة لخطر الجفاف، لذا فإن نتائج التجربة لم تكن فقط مفيدة في أزمة الجفاف السابقة، ولكن في الأزمات المستقبلية المتوقَّعة أيضا.

نتحدَّث هنا تحديدا عن “نظرية الدفعة” (Nudge theory) التي وضعها “ثالر” عام 2008. تقول النظرية إن الحكومات يمكنها دفع الأفراد نحو اتخاذ قرارات شرائية مناسبة أكثر عن طريق محفزات وإشارات غير مباشرة، بحيث يتخذ الأفراد قراراتهم من دواخلهم ولكن ببعض المساعدة والتوجيه، للوصول إلى الاختيار ذي المنفعة طويلة المدى، بدلا من اختيار خيارات عشوائية قصيرة المدى.

يمكننا استعارة نظرية “ثالر” هنا لتطبيقها على تغيير سلوكيات الناس نحو استهلاك المياه. عانت مدينة كيب تاون الواقعة في جنوب أفريقيا من موجة جفاف حادة عام 2018، نتيجة تتابع ثلاثة شتاءات جافة بلا أمطار بين الأعوام 2015-2017. استغل الباحثون في جامعة كيب تاون هذه الفترة لدراسة “نظرية الدفعة” عن طريق سلسلة من المحفزات والمعزِّزات الإيجابية لتشجيع المواطنين على ترشيد استهلاك المياه في فترة الجفاف، وأُرسلت “المحفزات” في هيئة رسائل مكتوبة تصل إلى كل مواطن مرفقة بالفاتورة الشهرية، بحيث يتلقى كل منزل رسالة مختلفة.

في النصف الأول من الرسائل، كان التركيز على التوعية بمعدلات هدر المياه والتكلفة الحقيقية لهذا الهدر. شملت الرسالة الأولى نصائح حول طُرق ترشيد المياه والقرارات الشرائية السليمة فيما يخص الصنابير. انقسمت النصائح إلى “حلول سريعة” يمكنك تنفيذها فورا، مثل الاستحمام لفترات أقل أو إصلاح مصادر ترشيح المياه، والقسم الآخر هو “قرارات الشراء الذكية”، ويُنصح فيه المواطنون بشراء صنابير أو رؤوس “دُش” أكثر كفاءة، مع ذكر مقدار المياه الفعلي الذي ستوفره الأسرة باتباع هذه النصائح.

وُضعت النصائح السابقة على ظهر فاتورة مياه تفصيلية لكل منزل تضم رسما بيانيا لستّ شرائح مياه مختلفة، وموقع كل مواطن منها. بالطبع كلما استهلكت المياه أكثر، تقدَّم موقعك من شرائح المياه وزادت قيمة الفاتورة التي تدفعها. يقودنا هذا إلى “الدفعة” الثالثة، وهي اللعب على مبدأي المكسب والخسارة المادية باستخدام أرقام من واقع فاتورة كل منزل. الشرائح الثلاث الأولى هي الأقل ثمنا، لذا يُصاحب الفاتورة عبارة تقول: “لو كنت استهلكت مياها أقل بـ 1000 لتر، لكنت وقعت في الشرائح الأقل ثمنا”، وبالتالي كنت ستوفر مبلغا قدره كذا.

إن لم يكن المواطن مهتما بكسب بضعة “راندات” إضافية (“راند” (Rand) هي عُملة جنوب أفريقيا) فماذا عن خسارتها؟ وفقا لنظرية “نفور الخسارة” (Loss aversion)، وهي مُكوِّن محوري لنظرية “الاحتمالية” (Prospect theory) التي طوَّرها “كانيمان” و”تفيرسكي” عام 1979، فإن الفرد يكره الخسارة أكثر من ميله لكسب القدر نفسه من المال. لذا استُبدلت الملحوظة السابقة بأخرى تقول: “باستهلاكك 1000 لتر زائدة فقد وقعت في الشريحة الرابعة، وخسرت مبلغ 370 راند سنويا”. كان وقع الرسالة الثانية أشد من سابقتها في حثّ الناس على ترشيد المياه.

هنا يأتي دور القسم الثاني من الرسائل، الذي أثبت فعالية أكبر في تغيير سلوكيات المواطنين على مدار 6 أشهر هي مدة الدراسة. اعتمد الجزء الثاني على “المحفزات المجتمعية” لدفع الناس نحو سلوكيات أكثر استدامة. باستخدام رسالة “القاعدة الاجتماعية” (Social Norm)، أُرسل إلى كل منزل رسم بياني مبسط يقارن بين استهلاك هذا المنزل للمياه مقارنة بمتوسط الاستهلاك في الحي. تهدف هذه المقارنة لدفع المواطنين للتعلُّم من مراقبة بعضهم بعضا، وهي طريقة أثبتت فعاليتها في دراسات سابقة. أنت تطمئن لانتمائك لمجتمعك بتقليدك لسُلوكيات أفراده، وفي هذا السياق تحديدا، يُعَدُّ هذا أمرا إيجابيا للغاية.

بالإضافة إلى ما سبق، أطلقت المدينة مبادرة لتوفير المياه، وأرسلت إلى المواطنين -ضمن الدراسة- إعلانا يدعو الجميع لخفض استهلاك المياه بنسبة 10% خلال أشهر الصيف. لجعل الأمر عمليا، تلقَّى كل مواطن تذكيرا شهريا بأنه لم يصل إلى الحد المطلوب من الاستهلاك بعد، مع الإشارة إلى إعلان نتائج مساهمات المواطنين في نهاية المبادرة. هنا اعتمد الباحثون على “الدافع الداخلي” (Intrinsic motivation) للمواطنين، وراقبوا ردود الأفعال والاستجابة لأهداف المبادرة، تمهيدا للخطوة التالية.

في نهاية المبادرة، أُعلن عن “الفائزين”، وهم المواطنون الذين نجحوا في تقليل استهلاك المياه بنسبة 10% بالفعل، مستخدمين حافز “الاعتراف المجتمعي” (Social recognition)، حيث سيعلم الجميع كم أنت مواطن مسؤول، وستكون مثالا يُحتذى به. وأخيرا، استخدموا ورقة “المصلحة العامة” (Public good)، فكلما رشّد المواطنون من الاستهلاك الفردي للمياه، انعكس ذلك على حصة المياه الخاصة بالمجتمع كله، وارتفعت القيود المحيطة باستهلاك المياه. الرسالتان الأخيرتان تحديدا كانتا الأكثر نجاحا في تغيير سلوكيات المواطنين، خاصة من الشرائح ذات الدخل الأعلى (6).

من المهم أن تُحترم حرية الأفراد أثناء وضع إستراتيجيات تغيير سلوك المواطنين، والاستعانة بالخيارات التي تتيح قدرا أكبر من حرية الاختيار على حساب السياسات الجبرية الآمرة. في كتابه “الدفعة: تحسين القرارات بشأن الصحة والثروة والسعادة”، يرى “ثالر” أن الناس يُفضِّلون حرية الاختيار على الإجبار على سلوك مسلك ما، وتزداد حرية الفرد عندما يُقال له: “ما دمت ستدفع ثمن الضرر المجتمعي الذي سوف تُسبِّبه، فلا بأس من الاستمرار في ما تفعل”، على عكس صيغة الأمر التي تقول: “عليك أن تُنفِّذ ما تقوله الحكومة بالحرف الواحد!”

على سبيل المثال، رفع أسعار الوقود قد يدفع الناس إلى شراء سيارات صديقة للبيئة، أو تقليل الاعتماد على السيارة واستبدالها بالمواصلات العامة أو الدراجة، هنا لم تُجبِر الحكومة المواطنين على سلوك معين، وفي الوقت ذاته لم تُنفِق الكثير على إستراتيجية “الدفعة” التي استخدمتها لتغيير هذا السلوك، والنتيجة النهائية ستكون عوادم أقل، وانبعاثات كربونية أقل، وتلوث هواء أقل. بالمثل، فإن استغلال الحكومات للإستراتيجياىت التي جُرِّبت في كيب تاون، بالإضافة إلى رفع أسعار المياه، يمنح مواطني البلد، أيًّا كان، الحق في اختيار دفع تكلفة ما يُسبِّبونه من هدر في استهلاك المياه.

في الوقت الحالي، قد يكون اتباع السلوكيات المستدامة (السلوكيات الفعالة التي تهدف إلى الحفاظ على الموارد الطبيعية) للحد من البصمة الكربونية للفرد، وترشيد استهلاك المياه، مجرد رفاهية يتمتع بها البعض ولا يُبالي بها الأغلبية. ولكننا شهِدنا بأنفسنا على ما يمكن للتغير المناخي أن يفعله، بين موجات الحر الحارقة في الصيف الماضي أو موجات الصقيع العنيفة هذا الشتاء، والجفاف القادم لا محالة هو النتيجة الحتمية لما نفعله -نحن البشر- في كوكبنا.

قد يعجبك ايضا