في الوقت الذي تسعى فيه دول عربية لتوسيع دوائر نفوذها الإقليمية والعالمية تارة بالتسلح وأخرى بالتدخل وثالثة بالتنمّر، بدأ شبح الجوع يلوح في أفق العالم العربي ويقض مضاجع الكثيرين ممن بدأت مشاعر الخوف من المستقبل تسري في أوصالهم. فقبل أسبوع دعت الأمم المتحدة في تقرير مشترك صادر عن برنامج الأغذية العالمي ومنظمة الأغذية والزراعة (الفاو) إلى ضرورة اتخاذ إجراءات إنسانية عاجلة في 20 دولة اعتبرتها بؤرا ساخنة للجوع في العالم، بينها خمس دول عربية، هي سوريا والسودان واليمن والصومال ولبنان.
قد تبدو كلمة «الجوع» مستغربة حين تربط بدولة عربية لأسباب عديدة: أولها الوفرة المالية العملاقة التي تملكها الدول العربية النفطية التي تملك أموال قارون. هذه الأموال تُنفق لتحقيق رفاهية البعض أو ضمان أمنهم بتوقيع صفقات تسلح عملاقة. وتكفي الإشارة إلى أن طائرة واحدة من نوع اف 35 التي تعتزم دولة الإمارات شراءها تكلف حوالي 150 مليون دولار. أليس هذا المبلغ كافيا لإقامة مشروع زراعي عملاق في السودان مثلا؟
وتملك دول عربية من الاحتياطات النقدية ما يتجاوز الألفي مليار دولار، في الوقت الذي تعاني فيه شعوب عربية أخرى من الحرمان والفقر. ثانيها: أن العالم العربي لديه إمكانات مائية غير قليلة توفرها ثلاثة أنهار عملاقة (النيل في مصر والسودان، ودجلة في العراق والفرات في كل من سوريا والعراق) تستطيع، لو توفرت الإرادة والتخطيط، أن توفر للعالم العربي كافة احتياجاته الغذائية. ثالثها: أن العالم العربي يتوفر على مناخ زراعي مناسب، توفره الشمس الساطعة ودرجات الحرارة المرتفعة. كما أن مصادر الطاقة سواء المستمدة من النفط أم من الشمس بإمكانها دعم مشاريع الرعي والزراعة، حتى لو اقتضى الأمر تكثيف مشاريع التحلية لتوفير مياه إضافية. رابعها: أن هناك من وسائل النقل ووسائطه ما يكفي لنقل المنتجات عبر البحار التي تحيط بالعالم العربي كله من الخليج إلى بحر العرب والبحر الأحمر والبحر المتوسط. فما أكثر الموانئ ووسائل النقل البحري، وما أسهل بناء الطرق البرية المطلوبة لنقل المنتجات الزراعية بين البلدان.
برغم هذه الحقائق يبدو شبح المجاعة مخيما على أجواء عدد من الدول العربية ويمثل أزمة تتفاعل حاليا تحت السطح، وقد تنفجر في أية لحظة. فقد حذر التقرير الدولي من احتمال تداعي الأمن الغذائي في الدول الـ20 خلال الشهور الثلاثة المقبلة، أي في الفترة ما بين يونيو/حزيران وسبتمبر/أيلول 2022. فهناك دول عربية يعاني سكانها من نقص حقيقي في الإمدادات الغذائية وستكون مهددة بالمجاعة فعلا. فمثلا: يواجه حوالي 213 ألف صومالي خطر المجاعة، وهو أعلى بثلاث مرات من المستويات المتوقعة في أبريل/نيسان، وفقًا لبيان صادر عن برنامج الأغذية العالمي ومنظمة الأغذية والزراعة ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) ومكتب تنسيق الشؤون الإنسانية. كما أن حوالي 7.1 مليون صومالي، أو ما يقرب من نصف السكان، يواجهون مستويات حادة من انعدام الأمن الغذائي، مما يعني أنهم بالكاد سيكونون قادرين على الحصول على الحد الأدنى من السعرات الحرارية التي يحتاجون إليها وقد يضطرون إلى بيع ما لديهم للبقاء على قيد الحياة. في العام 2011، قتلت المجاعة ما يقدر بربع مليون شخص في الصومال.
وإذا كانت الدول التي تملك دخلا ماليا كبيرا قادرة على استباق المجاعة باستثمارات مالية كبرى تخصص للغذاء، فإن الدول الفقيرة لا تستطيع ذلك. ففي الأسبوع الماضي أقر البرلمان العراقي مشروع قانون للدعم الطارئ سيسمح للحكومة بتحويل أموال عامة لتلبية الحاجات العاجلة للأمن الغذائي بينما يتسبب مأزق سياسي مضى عليه أشهر وحال دون تشكيل حكومة جديدة، في ترك البلاد بدون ميزانية. ويهدف القانون لتخصيص 25 تريليون دينار عراقي (17.14 مليار دولار) للحكومة لشراء القمح والأرز والغاز والطاقة ودفع الرواتب، بين أشياء أخرى.
ولكن ماذا عن الدول التي لا تستطيع تخصيص موازنات عملاقة لضمان الأمن الغذائي خصوصا إذا كانت محاصرة برّا وبحرا وجوّا؟ ففي اليمن الذي يمر بأكبر كارثة إنسانية في العالم، يحتاج الآن 17.4 مليون شخص إلى مساعدات غذائية، وتتعامل نسبة متزايدة من السكان مع مستويات طارئة من الجوع، في الوقت الذي يعاني 2.2 مليون طفل في أنحاء اليمن من سوء التغذية الحاد. وتتوقع وكالات أممية أن يزداد الوضع الإنساني في البلاد سوءا بين حزيران/يونيو وكانون الأول/ديسمبر 2022، حيث من المحتمل أن يصل عدد الأشخاص الذين قد لا يتمكنون من تلبية الحد الأدنى من احتياجاتهم الغذائية إلى رقم قياسي يبلغ 19 مليون شخص. وبعد صدور تحليل التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي (IPC) في اليمن، حذر صندوق الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) وبرنامج الأغذية العالمي ومنظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو) من اشتداد أزمة الجوع في اليمن مما يجعل البلاد تتأرجح على حافة كارثة حتمية. وقالت كاثرين راسيل، المديرة التنفيذية لليونيسف: «يأوي الكثير من الأطفال إلى الفراش بمعدة خاوية. هذا يزيد من تعرّضهم لخطر الإصابة بالضعف الجسدي والإدراكي، بل حتى الموت. لم يعد بالإمكان التغاضي عن محنة أطفال اليمن. الأرواح على المحك». ومن تداعيات الوضع في هذا البلد الذي يتعرض لحرب مفروضة عليه من الخارج منذ سبعة أعوام أن الآباء يجدون صعوبة في إحضار أبنائهم إلى المستشفيات والعيادات لتلقي العلاج بسبب عدم القدرة على تحمّل تكاليف وسائل النقل أو نفقاتهم الخاصة في الوقت الذي يتلقى أبناؤهم المساعدة.
وهناك عوامل عديدة ساهمت في شحة الغذاء في الدول العربية التي ذكرها التقرير الدولي المذكور. من بين هذه العوامل الحصار والجفاف والحروب التي عانت منها دول عديدة. ومن هذه الدول سوريا التي تعاني من أسوأ حالات الجفاف التي عرفتها الذاكرة الحديثة، حيث وصفها وزير الزراعة السوري بأنها الأسوأ منذ سبعة عقود. وفي حين أن المفوضية الأوروبية قدّمت وصفًا أقل قسوة، إذ قالت إنها أسوأ جفاف عرفته سوريا في الأعوام الخمسة والعشرين، الأخيرة فإن الحالة سيئة بلا شك، ويؤكد هذا الوضع تحذير رئيس اتحاد الاختصاصيين الزراعيين في الإدارة الذاتية للرقة من أن شمال شرق سوريا، سلة الخبز، يواجه «كارثة حقيقية». يضاف إلى ذلك أن الأزمة السورية التي استمرت أكثر من عشرة أعوام أنهكت اقتصاد البلاد ايضا. كما يواجه السودان أزمة زراعية حادة نظرا لغياب التمويل الحكومي للقطاع الزراعي. وقد تُركت مساحات شاسعة من المشروع الزراعي الذي يضم 8800 كيلومتر مربع بدون زراعة في بلد يعاني من تفاقم الجوع بشدة. فبعد أربعة عقود، عاد شبح المجاعة الذي دفع بوب جيلدوف للغناء في يوليو 1985 من أجل أثيوبيا والسودان، ليضرب بأطنابه في ذلك البلد مجددا.
لكن أزمة الغذاء في العالم العربي لها أسباب اخرى، محلية ودولية. فعلى المستوى الأول فبالإضافة للجفاف الذي أصاب المنطقة في السنوات الأخيرة، تمثل ظاهرة التصحر معوّقا آخر لانها قلّصت المساحات المزروعة. يضاف إلى ذلك شحة المياه الجوفية وتراجع مستويات الأنهار وحالة الجفاف بشكل عام. فالعراق وسوريا اللتان يفترض أن تستفيدا من نهري دجلة والفرات تعانيان من شحة مياههما لسببين: أولهما قلة الأمطار في الجبال التركية، وقيام تركيا ببناء سدود كبيرة تستحوذ على نسب عالية من مياه النهرين. وقد أدى معدل الانخفاض الحالي إلى مخاوف في العراق من نقص كمية مياه نهر دجلة إلى نصف الكمية، بعد أن بدأت تركيا تشغيل سد «إليسو» الذي انتهت من بنائه في يناير/كانون الثاني 2018.
بالإضافة لكونها قضية عالمية، فإن غياب التخطيط عامل مهم في هذه الأزمة. وما لم يطرح مشروع عربي مشترك لتوفير الماء والغذاء، فسيصح عالم النفط مهددا بالمجاعة. فاين العقل؟ وأين التوازن؟ وأين التخطيط؟