ان أزمة أوكرانيا وبعيدا عن أنها حدث مأساوي ومثير للحزن ذلك ان أي حرب تعد قضية قبيحة، لكنها تنبأ بتطورات مهمة في النظام الدولي، إذ وقبل اتخاذ أي موقف علينا فهمها فهما صحيحا، لمعرفة الفرص والتحديات التي تمنحها للدول لتحقيق مصالحها القومية. يمكن إيضاح أزمة أوكرانيا من مختلف الجوانب التاريخية والجغرافية والقومية والعرقية والسياسية وحتى الاقتصاد السياسي، لكن ما تتم دراسته في العلاقات الدولية على المستوى الشامل هو التنافس الروسي الأمريكي حول عمق استراتيجي يدعى أوكرانيا.
ان العمق الاستراتيجي يعد من أهم الاستراتيجيات لاحتواء المنافس والسيطرة عليه في مجال الجيو سياسي. ان العمق الاستراتيجي يعني ان دولة (ألف) تضع منطقة نفوذها وتواجدها العسكري في دول ثالثة وعلى حدود منافسها (ب)، على هذا وفي حال اندلاع الحرب يزداد تعرض الدولة المنافسة (ب) للأضرار وان الدولة الأولى بعيدة كل البعد عنها، ان الولايات المتحدة تقوم بهذا العمل في ممارسة الضغط على روسيا والصين في أوكرانيا وتايوان.
أظهرت أزمة أوكرانيا بان مرحلة العبور من النظام الدولي قد انتهت وإننا دخلنا مرحلة جديدة للنظام العالمي، بعبارة أخرى فان النظام الأحادي القطب الأمريكي الذي كان يتمتع بمكانة مهزوزة، قد انتهى اليوم وإننا دخلنا نظام ثلاثي الأقطاب غير متوازن بين أمريكا والصين وروسيا، فان المجال الذي اختارته روسيا لتحقيق مصالحها أدى إلى لعبها دور خارج حدودها في بلد ثالث، وان أمريكا لا يمكنها القيام بأي عمل، انه نموذج قد نشاهده مستقبلا في تايوان بين الصين وأمريكا، ان كل هذه الأحداث تبين بأننا دخلنا مرحلة ثلاثي الأقطاب ليست غير متوازنة فحسب، بل دخلنا في عصر الحرب الباردة الجديدة.
هذا وان طبيعة الحرب الباردة الجديدة وعلى الرغم من أهميتها واتساع مجالاتها غير العسكرية مثل الاقتصادية والتجارية والثقافية والتقنية والسيبرانية في العقود المنصرمة، إلا إننا مازلنا نشاهد بان ما يحدد نموذج التنافس بين الدول في نهاية المطاف هو الجانب الصلب للعلاقات الدولية أي القوة العسكرية والجيوسياسية، هذا ونوع ردة فعل روسيا تجاه تواجد قوات الناتو على حدودها يبين بان معضلة الأمن تحظى بأهمية كبيرة لدى الدول، بمعنى ان روسيا كانت قد تنبأت بأنها ستتعرض إلى العقوبات في حال شنها الهجوم، غير أنها وبعد النظر في الربح والخسارة فضلت تحقيق أمنها في الحدود على العقوبات الاقتصادية، ولم تتنازل عن مواقفها الأمنية مقابل العقوبات الاقتصادية.
هذه الحالة تبين بان تأثير آلية العقوبات الأمريكية لفرض إرادتها على الآخرين لم تحمل فاعلية كما كانت عليه سابقا، وان هذه القضية جاءت بسببين الأول ظهور قوة اقتصادية كبرى أي الصين، إذ ابرمت في بداية انطلاق الألعاب الأولمبية في بكين عقودا كبيرة في مجال النفط والغاز مع روسيا، والثاني تجربة فشل حملة الضغط الأقصى التي مارستها أمريكا على إيران. وقد يصبح العاملان قوة لروسيا حتى تنشط بحرية وقوة كبيرتين في مجال السياسة الخارجية، لكن أهم درس من الأزمة الأوكرانية قد يتجلى في قضية مساعدة الذات، إذ أعرب قادة أوكرانيا مرارا عن ندمهم للاعتماد على الغرب وأوروبا بعدما أطلقوا وعودا لمساعدة أوكرانيا، لكن بعد شن الحرب لم يبدوا أي ردة فعل، وتركوا أوكرانيا وحيدة.
هذه القضية قد تكون اكبر درس علينا تلقيه من طبيعة العلاقات الدولية، إذ ان نظام اللا سلطوية العالمي دائما ما يعاني من الغموض، بمعنى انه لا دولة يمكنها ان تثق بمستقبل علاقاتها بالدول الأخرى، وقد تعرض أي قضية أمنها للمخاطر، ولا سبيل للدول إلا الاعتماد على ذاتها لتحقيق الأمن نسبيا، إذ لا معنى للثقة والاعتماد على الآخرين، ولا فرق في ان يكون الآخر هو أمريكا أو الصين أو روسيا، إذ ان تحقيق الأمن والمصالح القومية يعد أهم سبب لسلوك الدول، وكلما اقتضت المصالح القومية للدول، فإنها تنتهك العهود والالتزامات؛ على هذا فان أي دولة هي التي تتولى مسئولية توفير أمنها ومصالحها القومية، وعليها ان تستعد لأسوأ السيناريوهات المحتملة.
————————
المقالات والتقارير المنقولة تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع