أزمة تستدير حول نفسها بلا مكابح: هل توقف “دبلوماسية القنوات المفتوحة” تصدعات المسار الانتقالي في السودان ؟
Share
لم تصمد المبادرة الأممية التي أعلنتها بعثة الأمم المتحدة في السوادان مطلع الشهر الجاري سوى أيام قليلة، بعدما أدى تصاعد الاحتجاجات إلى أعمال عنف وقمع للمتظاهرين زاد معها عدد ضحايا الاحتجاجات بصورة كبيرة، ما شكل عقبة أمام الجهود الأممية في لملمة مفاعيل أزمة تتصاعد بلا توقف.
انهيار المبادرة الأممية بدا واضحا من خلال دبلوماسية القنوات المفتوحة التي شرعت فيها العديد من التكتلات والعواصم الإقليمية والدولية والمكونات السياسية الاجتماعية والثقافية الداخلية بتحركات مباشرة وعاجلة في مسعى لإنقاذ جهود التسوية المترنحة، وتثبتت أكثر في الرسالة التي وجهها الائتلاف الحاكم سابقا الذي يضم قوى الحرية والتغيير وتجمع المهنيين إلى اجتماع ملتقى أصدقاء السودان المنعقد بالرياض مؤخرا.
تطور ما انفك يضيف تعقيدات أكبر للأزمة، بعدما أبلغ الائتلاف الحاكم سابقا الدول والمنظمات المشاركة في الملتقى، عزمه إعادة تقييم انخراطه في الجهود الأممية، واعتباره أن المشاورات الأممية تلقت “ضربة قاصمة من سلطة الانقلاب”، فضلا عن دعوته دول الملتقى إلى دعم “آلية دولية رفيعة المستوى للمساهمة في تطوير “عملية سياسية ذات موثوقية تنهي الوضع الانقلابي كليا وتؤسس لإطار دستوري جديد يحقق مطالب السلطة المدنية الكاملة”.
هذا الموقف كان في والواقع تطوراً مفصلياً في مسار الأزمة السودانية، تزامن مع قلق واسع تجاوز الداخل السوداني إلى الإقليمي والدولي، وأفضى إلى ثمان وساطات ومبادرات تحاول كلها دعم المبادرة الأممية لتلافي الأسوأ.
على الصعيد الإقليمي برزت ثلاث مبادرات الأولى قدمتها الهيئة الحكومية للتنمية في شرق إفريقيا “ايغاد” وتدعو إلى تجاوز الراهن السياسي الذي يمر به السودان وتبني مفاوضات برعاية “ايغاد” مع أطراف العملية السياسية وتوسيع قاعدة المشاركة في تدبير ما تبقى من المرحلة الانتقالية وفقا لما أعلنه رئيس بعثة “ايغاد” عثمان حسن بليل، الذي زار الخرطوم وأجرى لقاءات مع أعضاء في مجلس السيادة وبعض القوى السياسية بشأن هذه المبادرة دون إعلان تفاصيل.
وقاد الاتحاد الأفريقي المبادرة الثانية، غداة وصول مفوض الشؤون السياسية والسلم بالأمن الأفريقي أديوي بانكولي إلى الخرطوم، حيث سلَّم رسالة إلى الفريق البرهان أكدت استعداد الاتحاد الأفريقي دعم التوافق من أجل تحقيق الانتقال السياسي في السودان، بالتواصل مع جميع الشركاء الدوليين والتزامه بالتشاور مع الحكومة وأصحاب المصلحة وكل مكونات المجتمع، بغية الوصول إلى حل سياسي سلمي قابل للتنفيذ.
حزب الأمة السوداني قدم أيضا مبادرة ثالثة اقترحت خارطة طريق لاسترداد الشرعية وإكمال المسار الانتقالي ومراجعة أسس الشراكة وتطوير الوثيقة الدستورية وإصلاح الأجهزة القضائية واستكمال عملية السلام، بينما أفضى المؤتمر الذي عقدته الإدارات الأهلية والطرق الصوفية في السودان في الخرطوم إلى مبادرة رابعة دعت أطراف الأزمة السياسية إلى تحقيق الوفاق، مقترحة عقد مائدة مستديره لبحث حلول توافقية للمشكلات الحالية، دون الحاجة لأي تدخلات أجنبية باعتبارها السبب الأول للمشكلات في السودان.
تلت ذلك مبادرة خامسة، قدمها مدراء الجامعات السودانية واقترحت صياغة وثيقة واحدة تجمع كل القوى السياسية السودانية بهدف إيجاد حل منطقي ومقبول ومتوافق عليه، وتهدف إلى تقديم خارطة طريق للوصول إلى اتفاق على الحد الأدنى لحل الأزمة، وكذلك إيجاد حوار فاعل بين أطراف المكوّن المدني، وصولا إلى تحقيق التحول المدني المستدام.
أما جهود الوساطة، فقد تصدرتها دولة جنوب السودان، التي أرسلت وفدا رفيع المستوى إلى الخرطوم برئاسة مستشار رئيس جنوب السودان للشؤون الأمنية توت قلواك والذي زار مقر بعثة الأمم المتحدة للتعرف على تطورات أوضاع ومآلات المبادرة الأممية وما يمكن أن تساهم به دولة جنوب السودان في دعم الجهود الأممية.
يضاف إلى ذلك الاجتماع الذي عقده ملتقى أصدقاء السودان المنعقد أخيرا في الرياض والذي أقر تعزيز التنسيق المشترك لدعم العملية السياسية وضمان الانتقال السلمي السياسي ودعم جهود بعثة الأمم المتحدة لدعم المرحلة الانتقالية (يونيتامس) واحتواء الاحتقان السياسي ودعم العملية الديموقراطية، وتاليا الزيارة التي قام بها وفد إسرائيلي إلى الخرطوم، ناقش خلالها الملفات الأمنية.
فرص المبادرات
يمكن القول إن سائر المبادرات والوساطات المعلنة حتى الآن لم تكن سوى تحركات لإبقاء القنوات الدبلوماسية مفتوحة لدعم الجهود الأممية أولا، وثانيا لتلافي ما هو أسوأ في ظل الانسداد الحاصل في العملية السياسية بين المكونين العسكري والمدني، في ظل استمرار التدهور جرَّاء تصاعد الاحتجاجات وأعمال العصيان المدني والتي رفعت معها الأطراف السياسية سقوف مطالبها إلى مدى صار يلوّح بانزلاق وشيك لهذا البلد نحو المجهول.
هذا السيناريو رجَّحته التحركات الأخيرة للائتلاف الحاكم سابقا والذي وضع أمام ملتقى أصدقاء السودان في الرياض شروطا لإعادة الحياة إلى المبادرة الأممية من خلال توسيعها وفق آلية تتيح تمثيلاً رفيع المستوى للأطراف الإقليمية والدولية بشخصيات نافذة من دول الترويكا والاتحاد الأوروبي والجوار العربي والافريقي، وهي الرؤية التي اعتبرت بمثابة شروط ترفضها كليا الأطراف السياسية الموالية لمجلس السيادة العسكري وقطاع واسع من القوى السياسية السودانية الموالية والمعارضة.
وإذا ما خطت المبادرة الأممية خطوة بهذا الاتجاه فذلك يعني انسداداً إضافياً في العملية السياسية قد يفتح الطريق للجهود الأفريقية التي تبدو مرشحة للعودة مجددا إلى المشهد السوداني، استنادا إلى ما يتمتع به الاتحاد من ثقة في الوسط السوداني الرسمي والأهلي وتاريخه الحافل بحل النزاعات وآخرها نجاحه في إدارة المفاوضات السابقة بين المدنيين والعسكريين عقب إسقاط نظام حكم عمر البشير والتي توِّجت بتوقيع الوثيقة الدستورية كما أفسحت المجال لشراكة تدير مهام المرحلة الانتقالية.
أما وساطة جوبا، فلم تخرج عن الإطار الأممي كثيرا، إذ أعلنت استعدادها المساهمة في جهود حل الأزمة بالتشاور مع البعثة الأممية، داعية إلى اتفاق إطاري لإدارة ما تبقى من المرحلة الانتقالية المتبقية والمساهمة في جهود الحل الدولية للوصول إلى اتفاق توافقي للأزمة.
الحال ينطبق مع التحركات التي بدأها “ملتقى أصدقاء السودان” فمنذ تأسيسه عام 2018م، بمشاركة المجموعة الأوروبية ممثلة في بريطانيا وفرنسا والنرويج والسويد وكذلك الولايات المتحدة والإمارات وصندوق النقد والبنك الدوليين، لم تزد تحركاته عن دعم بعثة الأمم المتحدة في السودان وظل غائبا عن المشهد السوداني كما اكتنف نشاطه الكثير من الجمود.
عقبات على الطريق
استمرار الاحتجاجات المطالبة بالحكم المدني وإزاحة المجلس العسكري من المشهد السياسي وتشكيل حكومة مدنية ومحاكمة الضالعين بجرائم قتل المتظاهرين، زاد من حجم الضغوط الدولية على المجلس العسكري بصورة غير مسبوقة، خصوصا بعد إعلان واشنطن عدم استئناف مساعداتها للسودان دون وقف العنف وعودة حكومة يقودها المدنيون، ناهيك عن إعلانها أنها تدرس اتخاذ إجراءات لمحاسبة المسؤولين عن تعطيل العملية السياسية في البلاد.
هذا الموقف الذي تزامن مع تصاعد الاحتجاجات بعد فترة هدوء أعقبت توقيع اتفاق البرهان ـ حمدوك، كشف أن واشنطن كانت متوجسة من صمود الاتفاق، في ظل استمرار مفاعيل الأزمة التي تعصف باستقرار السودان وتهدد بإجهاض مرحلة الانتقال الديموقراطي، وهو أمر أكده بحث الكونجرس الأمريكي مؤخرا ملف (مزعزعي الاستقرار في السودان) استنادا إلى خلاصة تحدثت عن أن اتفاق البرهان ـ حمدوك لم يكن كافيا لضمان التحول الديموقراطي في السوادان.
ورغم التحذيرات التي أفصحت عنها مساعدة وزير الخارجية الأمريكي خلال زياراتها الأخيرة للخرطوم، لا يبدو أن مجلس السيادة السوداني يكترث كثيرا لتهديد واشنطن بوقف المساعدات أو حتى عصا العقوبات الجماعية، فهو يعرف أن لدى السودان ثروة من الذهب كفيلة بتعزيز استقراره الاقتصادي لعقود، كما أن العقوبات التي فرضت على السودان في عهد البشير لم تؤثر على السودان لسنوت طويلة.
ومن جهة ثانية لا يبدو أن التوجه الذي أعلنت عنه مساعدة وزير الخارجية الأمريكي قد أفصح عن سياسة واشنطن في الفترة القادمة، فالكثير من المعطيات تؤكد أن واشنطن لا تزال تعمل على الموازنة بين خطوات المجلس العسكري ومطلب الشارع السوداني وآفاق التعاون الأمني مع السودان كغيرها من دول القرن الأفريقي بعد الرحيل المضطرب لواشنطن من هذه المنطقة الملتهبة.
خلافات معقدة
تكشف تطورات الأزمة السودانية أن المطالب التي ترفعها اليوم قوى المعارضة بإبعاد المكون العسكري من المشهد السياسي، لا يمكن اعتبارها إلا على أنها انقلاب على الاتفاقيات السابقة التي انتجتها ثورة ديسمبر بعد الإطاحة بنظام البشير، كما أن الاتهامات التي تسوقها للمجلس العسكري بالانقلاب ليست حقيقية بالكامل، فالخطوات التي اتخذها كانت من صلب صلاحياته بعد أن أقرت القوى السياسية اعتباره المؤسسة السيادية الأولى التي تتولى السلطة بالاشتراك مع الحكومة المدنية.
وفضلا عن ذلك فإن قوى المعارضة وقعت مع العسكر وثيقة دستورية تم بموجبها تشكيل مجلس السيادة الذي حدِّدت له مهمة أن يكون رأساً للدولة السودانية في إطار من الشراكة مع حكومة حمدوك التي كانت تدير شؤون الحياة اليومية للسودانيين، إلى حين تسليم السلطة لحكومة مدنية منتخبة.
ومن جانب آخر فإن الرؤية التي يطرحها مجلس السيادة باختيار رئيس حكومة من المدنيين وتشكيل حكومة كفاءات بعيدة عن الأحزاب تمثل المطالب عينها التي ظل الشارع السوداني وقوى المعارضة يطالبون بها في الفترة الماضية، بعدما وصلوا إلى قناعة بعدم جدوى الحكومات القائمة على المحاصصة الحزبية.
أما الانتقادات بشأن قمع العسكر للتظاهرات السلمية فقد تبدو في أحد جوانبها شرعية، لكنها من الجانب الآخر تبدو طبيعية إذا أما اعتبرناه نتيجة اضطروا فيها إلى اللجوء للعنف باعتباره الوسيلة الوحيدة لمواجهة شارع غاضب حاول مرات عدة اقتحام القصر الرئاسي والمؤسسات وقطع أوصال العاصمة بالمتاريس ناهيك عن مطالبه المنفلتة بإسقاط النظام دون أن يعبأ بالعواقب.
وهذا لا يعني أن كل الإجراءات التي اتخذها مجلس السيادة شرعية، فالمجلس ارتكب أخطاء فادحة عندما أقصى تحالف الحرية والتغيير من العملية السياسية، ناهيك عن الأخطاء السياسية التي كشفت ضعف خبرته السياسية في الشراكة السياسية.
كما أن مجلس السيادة وكذلك القوى السياسية المدنية التي عانت طويلا من الإقصاء السياسي، ارتكبت خطأ فادحا بإقصاء المؤتمر الوطني الحاكم سابقا من المعادلة السياسية، فهذا الحزب يمتلك قاعدة شعبية عريضة أقصيت كليا وصارت بحكم الأمر الواقع مدانة ومبعدة سياسيا وتكتفي بمشاهدة ما يدور من تجاذبات أعادت الذاكرة السودانية إلى الفترة التي أعقبت نظام جعفر نميري.
وما فعله المجلس العسكري والقوى السياسية المدنية بعد ثورة الإطاحة بنظام البشير، أعاد إنتاج تجربة قريبة مع الاتحاد الاشتراكي الذي تم إقصاؤه عن المعادلة السياسية السودانية بعد الإطاحة بنظام جعفر نميري مقابل إفساح المجال لمراهقات سياسية، ما جعل العملية السياسية تواجه مشكلات كبيرة أنتجت تاليا ثورة الإنقاذ ونظامها الاستبدادي.
تقاطعات حرجة
الإشكال الأكبر في الأزمة السودانية اليوم يكمن في عدم قدرة الأطراف التي تطالب بمدنية الدولة وإسقاط المجلس العسكري على تقديم بدائل واقعية، وما طرحته أمام ملتقى أصدقاء السودان في الرياض لم يكن سوى دعوة مفتوحة للمجتمع الدولي لممارسة كل اشكال الضغط على المجلس العسكري لحملة على الانسحاب من المشهد السياسي دونما اعتبار للتداعيات التي ستواجه السودان مع استمرار انقسام القوى السياسية المدنية وعجزها عن إنتاج بديل قادر على المضي بالمرحلة الانتقالية قدما وصولا إلى الانتخابات.
كل معطيات الأزمة الراهنة تؤكد أن مجلس السيادة العسكري سيمضي في مواقفه بإدارة المرحلة الانتقالية قدما، حتى مع تعثر الجهود الأممية وتصاعد الاحتجاجات وخصوصا أن الرؤية التي يطرحها باختيار رئيس حكومة من المدنيين وتشكيل حكومة كفاءات بعيدة عن الأحزاب تمثل عين المطالب التي ظل الشارع السوداني وقوى المعارضة يطالبون بها في الفترة الماضية، بعدما وصلوا إلى قناعة بعدم جدوى الحكومات القائمة على المحاصصة الحزبية.
والمؤكد أن الشروط المسبقة هي العقبة الكأداء في الأزمة السودانية اليوم، ففي العمليات السياسية تبدأ الحلول بالقبول بالحوار وإطلاق المفاوضات على أرضيات مشتركة، بينما تفضي الشروط المسبقة دائما إلى انسداد كامل وتأجيل لأزمات أكبر على الطريق.
والحديث هنا يدور حول المطالب التي رفعها تحالف الحرية والتغيير وتجمع المهنيين والحزب الشيوعي ومعهم لجان المقاومة ضمن شعار “اللاءات الثلاث ضد المكون العسكري” لا تفاوض.. لا شراكة.. لا شرعية”.
وليست بعيدة عن ذلك المطالب الدولية بوقف العنف، فالمطالبات بإنهاء أعمال القمع الوحشي على المتظاهرين برغم أنها عادلة وكشفت فشل المكون العسكري في ضبط بوصلة العنف، إلا أنها من ناحية سياسية تعني تهيئة المناخ لوقف ما يؤدي إلى العنف وهي الاحتجاجات التي تهدد ليس فقط بتلاشي الآمال بالتحول الديموقراطي وتحقيق أهداف الثورة، بل وحشر السودان في نفق مظلم.
إن أكثر ما يحتاجه السودان اليوم هو تقديم القوى السياسية الحاكمة والمعارضة تنازلات وخصوصا في اللاءات الثلاث التي أججت الشارع وسدَّت جميع الطرق للحوار، ويصعب التكهن بأنها ستقود إلى حلول على المدى المنظور، بل المرجح أنها ستفرز تعقيدات أكبر في بلد صار فيه الوقت حاسما لتلافي تراكم أزمات قد يكون من الصعب السيطرة عليها مستقبلا.
آخر ما يمكن قوله إن الجميع في السوادان يعرفون أن شكل مدنية الدولة لا يمكن أن يتحقق بالرهان على الاحتقان والتمترس وفوضى الشارع خصوصا مع استمرار بعض الأطراف في إنتاج خطاب كراهية يؤجج حالة الصراع والانقسام.
وهنا على السودانيين أن يسألوا: هل تستطيع المكونات المدنية بعد تجربة عامين من الفشل والانقسام وبتوجهاتها الإقصائية ومنهجها الفوضوي بالتدويل، إكمال مسيرة الانتقال الديموقراطي في السودان؟
الأيام القادمة حبلى بالمفاجآت.