السودان هو البلد العربي الأفريقي السامي الحامي، كبير المساحة، غنيّ الموارد، فقير التنمية، شحيح الصادرات، فاقد الاستقرار، مزدوج الثنائيات والأقطاب. هو ساحة لتصفية حسابات وتعقيد أخرى، ومسمار عجلة في نظام الشرق الأفريقي، ورمانة ميزان في محاور اندثرت وأخرى قادمة، وثورة تتأرجح بين الخيبة والأمل منذ 3 سنوات، فما الجديد؟
في رأس السنة، يستذكر السودانيون في الوطن والمهجر، وفي السجون والمنافي، بالفرح والغصّة، ذكرى ذات وقع فريد، تتمثّل باستقلال البلاد قبل 66 عاماً، تكرّ كما لقطات الفيلم، فيظلّ العمل البطولي نحو الجلاء والاستقلال و”السودنة” متجذراً منذ لحظة رفع العلم فوق سراي الحاكم العام في الخرطوم، وتتكرر في الفيلم عينه المباهج والمآسي نفسها، مروراً بانقلابات مؤسساتية، وأخرى أيديولوجية، وحرب أهلية هي الأطول عمراً في القارّة السمراء، وسيطرة الإسلاميين، ولحظة انفصال الشطر الجنوبي، وليس انتهاء بثورة كانون الأول/ديسمبر 2018م، التي وضعت البلد المتعدد الأعراق واللغات والأديان في مفترق طرق، أقصرها مميت وأطولها شاق، ما بين الحرب الأهلية مجدداً والجمهورية “الثالثة” التي ما زالت تتراءى خيالاً عند البعض، وحقيقة جوهريّة عند البعض الآخر، برؤية حديثة لبناء دولة لامركزية مرِنة وعادلة.
يدخل السودان العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، ويكمل عامه السادس والستين كدولة مستقلة، وهو يعيش أشدّ طور من أطوار أزمته الوطنية، ويشهد انسداداً في الأفق سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، فيما تتجاذب مصيره التوازنات والمحاور الإقليميّة، إذ يقع دائماً في منتصف الطريق لكلِّ هذه المشاريع: طريق الحرير، الناتو العربي، محور المقاومة، السّاحل والصحراء، الكوميسا… وبموارده وطاقاته، يشكّل بيدقاً مهماً في رقعة الشطرنج الجيوسياسية لعالم اليوم الّذي تحكمه المصالح والثروات.
إنَّها أزمة قديمة/جديدة تتغيّر فيها الأسلحة والشّخوص والواجهات واللاعبون وداعموهم، وتبقى معاناتها اللازمة وجوهرها ثابت المعادلة؛ أزمة بنيوية اجتماعية شكَّلتها عقود من طريقة إدارة الدّولة التي قامت على قطبيّة سياسية شديدة الجاذبية، بين أحزاب السلطة الطائفية والطبقة الحاكمة (الأمة والاتحادي) ذات النفوذ والمال والسلطة، وأحزاب المعارضة والطبقات المحكومة (الشيوعي والإخوان) ذات التنظيم والفكر والسلاح.
هكذا، رُسم المشهد السياسي منذ الاستقلال وإلى اليوم: ثورة، ففترة انتقالية هشة، وانتخابات جدلية، ثم توتر عالٍ وانقلاب، وهكذا دواليك. المتغيّر الوحيد أنَّ الأمور كانت تسير بوتيرة أسرع، وبتضخّم متزايد منذ العام 1989م، تاريخ انقلاب الإخوان المسلمين على حكومة العهد الديمقراطي الثالث بزعامة حزب الأمة، لتشتعل معها نزاعات في ولايات الجنوب والغرب والشرق. ويبقى الشمال والوسط محكومَين بفعل الجغرافيا بسلطة المركز.
اليوم، يدخل السودان شهراً ثالثاً من حالة شلل تام، فمع استقالة رئيس مجلس وزراء الحكومة الانتقالية المؤقتة عبد الله حمدوك الأسبوع المنصرم، أصبحت البلاد من دون حكومة، وبمجلس سيادة يتناقص نصابه تدريجياً بداعي الاستقالة، ويحاول إكمال مهمة القيام بمهام رأس الدولة والإشراف على ما تبقى من المرحلة الانتقالية، وصولاً إلى الانتخابات العامّة المزمع إجراؤها في العام المقبل.
هذه المرحلة تزداد تعقيداً كلّ يوم، من دون تقارب بين الفرقاء السياسيين والقبليين والعسكريين، وسط انفلات أمني متزايد وتدهور في الوضع الاقتصادي وتململ تعبّر عنه احتجاجات يومية مطلبية وأخرى سياسية، آخرها تظاهرة الخميس في 6 كانون الثاني/يناير، التي كانت التظاهرة الثالثة في 6 أيام، والتي دعت إليها جهات لا ينتمي أغلبها إلى الطيف الحزبي المعروف، مثل لجان المقاومة السودانية وتجمّع المهنيين السودانيين ولجان تسيير النقابات وغيرها، بينما يحكم الجمود الموقف سياسياً، وتترامى المبادرات داخلياً وخارجياً، ويظل الترقب والحذر سِمَتي المشهد، فالجميع يريد أن يتلقى الضّربة الأولى في هذا المشهد المبعثر.
هناك أيضاً بقايا النظام السابق؛ نظام الرئيس المعزول عمر البشير وحزبه المؤتمر الوطني، والطبقة الحاكمة المرافقة لها من سياسيين وضبّاط وكتّاب وشخصيات عامّة، بعضها اليوم في السجن، والآخر في المنفى، وقلّة غير مؤثرة لا تزال طليقة، تحاول استعادة سلطة هشّة أصلاً، مستغلّة استياء الفئات المهمّشة من أداء الحكومة الانتقالية منذ تشكيلها في خريف 2019م وحتى حلّها عقب انقلاب تشرين الأول/أكتوبر بعد عامين؛ أداء كان عنوانه التعديلات الوزارية المتتالية والتصارع حول استيفاء استحقاقات المرحلة الانتقالية من تشكيل المجلس التشريعي الانتقالي بوصفه سلطة التشريع وبرلمان الثورة، إضافةً إلى مفوضية الانتخابات والجهاز القضائي وتفكيك النظام السابق المنصوص عليه في الوثيقة الدستورية، ما انعكس سلباً على الأداء الحكومي، وأدّى إلى تردّي الأوضاع المعيشية والأمنية في البلاد.
وزاد الأمر سوءاً تماهي السّلطة الانتقاليّة، من عسكريين ومدنيين، مع دعوات مشبوهة للتّطبيع، ساقتها الإدارة الأميركية في عهد ترامب، على أمل إعادة السودان إلى المجتمع الدولي، كما يعرفه “الغرب”. وقد فاقم المأساة قيام الحكومة بـ”تحريرٍ” للاقتصاد كان مقروناً بشيء من العودة إلى المنظومة المالية الدولية بعد مؤتمر نادي باريس لجدولة ديون السودان البالغة 66 مليار دولار أميركي، وهي عودة صاحبتها إجراءات مفرطة في قسوتها على فقراء البلد، من خصخصة وتعويم لسعر صرف الجنيه، العملة الوطنية المترنحة، ورفع للدعم ترافق دوماً مع ارتفاع مطرد للإيجارات والأسعار وكلفة المعيشة، في حالة تشبه تلك التي يشهدها بلد متعدّد الأزمات أيضاً، مثل لبنان والعراق وتونس وليبيا، غير أنَّ الأزمة الاقتصادية بقيت مستفحلة، وهي تضرب كلّ يوم الطبقات الأكثر فقراً في بلد يعدّ نصف سكانه تحت خطّ الفقر، وربعه مهاجرون في المغترب، وثلثه أمّيون، وسكّان أطرافه يعيشون في نزوح داخلي ولجوء إلى دول الجوار، ومنها إلى أوروبا وأميركا الشمالية.
وفي مفارقة، لم يتوقّف اللاجئون عن التوافد إلى السودان حتى اليوم، وهو يستضيف ملايين اللاجئين الَّذين يتقاسمون مع المواطنين مرارة الأزمات وشدّة وقعها، من دون اهتمام ملموس من قبل الهيئات الدولية يتناسب وحجم الأزمة، ووسط تجاهل إعلامي متماهٍ مع أطماع متجدّدة لتأزيم الوضع وتفخيخه، على أمل الحصول على مكاسب هي في الأصل منشأ الأزمات، بينما تكتظّ العاصمة المثلثة الخرطوم بعشرة ملايين قاطن يشكّل الشباب اليائس السواد الأعظم منهم، فيما تحتفظ أقليّة حاكمة بامتيازات في مجملها إرثي وحصري.
ويتمّ رفع الدعم تدريجياً عن أكثر السلع حيويّة، وهو السبب عينه الذي دفع طلاب مدرسة ثانوية في مدينة عطبرة إلى التظاهر يوم 19 كانون الأول/ديسمبر قبل 3 أعوام، مفجّرين بذلك انتفاضة آلت اليوم إلى المربع الأول، مع اشتداد الضّغط على الدولة وخطر الانزلاق نحو المواجهات المسلّحة في ظل وجود حركات مسلّحة في العاصمة والأطراف، بعضها وقّع على اتفاق جوبا للسّلام الذي فاوضت عليه الحكومة الانتقالية، وشكّل لبعض الجهات القبليّة خصوصاً هاجساً أيقظ دعوات جهوية ومناطقية للحكم الذاتي، بل والانفصال، في الطريق نحو حل الحكومة والانقلاب، وهو اتفاق جمّد مساره المتعلّق بالمنطقة الشرقية بعد إغلاقات متكرّرة للمرفأ الرئيسي للبلاد في بورت سودان، نفّذتها قوى قبلية، مثل مجلس نظارات البجا (المكون الديموغرافي الأكبر في شرق السودان).
يأتي ذلك في حين ما زالت السّلطة القائمة تجدّد دعواتها لبقية حاملي السلاح (حركة جيش تحرير السودان [ليبرالية] بقيادة عبد الواحد نور المنفيّ في فرنسا، والحركة الشعبيّة لتحرير السودان – شمال قطاع كردفان [يسارية] بقيادة عبد العزيز الحلو المتحصّن في مقر قيادته في جبال النوبة جنوبي كردفان وسط السودان) للتوقيع على الاتفاق الهشّ برعاية وساطة أفريقية أمميّة والانتقال من مربع الحرب إلى المفاوضات.
سياسياً، تسود الفوضى في المشهد، فتحالف المعارضة المظلّي الأوسع في تاريخ السودان، قوى إعلان الحرية والتغيير، الذي تأسّس في مطلع العام 2019م، وجاء إلى السلطة بتوقيعه على الوثيقة الدستورية المنشِئة للسلطة الانتقالية مع المجلس العسكري الانتقالي – الذي تولّى الحكم ذاتيَاً عبر انقلاب اللجنة الأمنية العليا على نظام البشير يوم 11 نيسان/أبريل 2019م – برعاية وساطة أفريقية وعربية وأمميّة مطلع آب/أغسطس 2019، عقب فضّ اعتصام القيادة العامّة صيف ذلك العام، يعيش حالة من العزلة بعد إزاحته عن السلطة بانقلاب الجيش 25 تشرين الأول/أكتوبر 2021م، وتعطيله مواد في الوثيقة الدستورية نصّت على مهام متعلّقة بمجلس الوزراء، إذ وجد التحالف نفسه بين مطرقة العودة إلى السلطة وتقديم تنازل مجزٍ لخصومه العسكريين والقبليين وسندان الضغط الشعبي الساخط والناقم على بعض سياسات الحكومة السابقة التي تشكَّلت في الأساس بارتضاء تحالف الحرية والتغيير، ناهيك بالأزمة التركيبية والبنيوية التي تصاحب مثل هذا النوع من التحالفات الواسعة، كما حدث في دول عديدة تشابه السودان في أزماته في مسطّح الجنوب، مثل تايلاند وباكستان وغينيا ومالي وباراغواي.
على الطرف الآخر، تقف أحزاب غير مشاركة في تحالف الحرية والتغيير موقفاً غامضاً ينمّ عن حالة من الضبابية في تلك الأحزاب القليلة الخبرة في مجملها، وهي أحزاب ليبرالية ويمينية حديثة نسبياً، بينما يبقى الخاسر الأكبر هو تيار الإخوان المسلمين الذي يحمّله البعض جزءاً كبيراً من المسؤولية عن المحصّلة الحاليّة للوضع، وهو بدوره يمرّ بأزمة تنظيميّة وفكريّة حادة، تطّرد مع الأزمة الإقليميّة للتنظيم الذي حكم السودان 3 عقود.
في خضمّ ذلك، يقف الحزبان العريقان الطائفيان، حزب الأمة القومي والحزب الاتحادي الديمقراطي، على أطراف الحبل، ويقدّمان المبادرة تلو الأخرى للوصول إلى نوع من التوافق لإدارة المرحلة الانتقالية، بعد تهافت بعض الأحزاب لتحقيق مكاسب سياسية خلال الفترة الماضية، عبر السعي لتمديد الفترة الانتقالية وإفراغ شعارات الثورة وثوارها من إنجازٍ للحريات وتحقيق للعدالة وإرساء للسلام، وبناء دولة مواطنة لا مركزية من مضامينها، وتحويلها إلى أوراق رهان في يدها.