لا تبدو الأحداث الأخيرة في جنوب اليمن خارجة من سياق الفشل المُعمّم للتحالف السعودي ـــ الإماراتي، المدعوم غربياً، والذي يتّخذ هذه المرّة صورة العجز عن حصر تداعيات الحرب الاقتصادية التي أرادها مسلّطة حصراً على صنعاء، فامتدّ لهبها ليشمل أوّلاً المناطق الواقعة تحت سيطرته.
وبينما يعجز وكلاؤه المحليون عن تقديم أيّ حلول للأزمة المتفاقمة على الصعد كافة، لأسباب متعدّدة على رأسها تشظّي صفوفهم وتضارب مصالحهم، يحاول كلّ منهم الاستثمار في الاحتجاجات الأخيرة، بخطابات وممارسات مزدوجة فاضحة، على رغم أن التحرّكات لا توفّر أيّاً منهم، وتُحمّلهم مجتمعين مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع في المحافظات الجنوبية
بات واضحاً، بالنسبة إلى اليمنيين كافة، أن التحالف السعودي ـــ الإماراتي هو المسؤول الأوّل عن تردّي الأوضاع في بلادهم والانهيار الحادّ في سعر عملتهم الوطنية، وأن السياسة الاقتصادية التي تنتهجها «اللجنة الرباعية» المشكَّلة من الولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية والإمارات، لا تمثّل أكثر من أداة من أدوات الحرب على صنعاء.
لكن المفارقة أن تأثير تلك السياسة يصيب في كلّ مرّة المحافظات المحتلّة أكثر ممّا يصيب صنعاء، إذ إن حكومة الإنقاذ تنبّهت باكراً إلى ضرورة اتّخاذ الإجراءات الدفاعية المناسبة بوجه هذه الحرب الاقتصادية، التي لم يستطِع عرّابوها فصل مناطقهم عن تداعياتها.
وما يضاعف حدّة الأزمة هو حالة الاحتراب المستمرّة بين وكلاء السعودية والإمارات، والتي أدّت إلى توقّف الاستفادة من الثروة النفطية والغازية، كما في محافظة شبوة، حيث تمنع الإمارات تصدير الغاز اليمني من منشأة بلحاف.
إزاء ذلك، وعلى وقع الاحتجاجات المستمرّة منذ أيام في المحافظات الجنوبية، اجتمعت «اللجنة الرباعية» في الرياض لتباحث الأوضاع، من دون أن تقدّم أيّ مقترح أو خطّة لحلّ الأزمة، باستثناء الثناء على ما تقدّمه السعودية من مساعدات لليمن، ودعوة حكومة عبد ربه منصور هادي للعودة إلى عدن.
وليست هذه المرّة الأولى التي ينتفض فيها الشارع الجنوبي، إذ لطالما شهدت السنوات الماضية، دورياً، خروج تظاهرات احتجاجية على تردّي الخدمات وانهيار سعر العملة، فضلاً عن غياب الأمن وانتشار الفوضى، والظاهر أن دورة الاحتجاج الأحدث لن تكون الأخيرة أيضاً.
إذ لا تمتلك القوّتان الرئيستان في المحافظات الجنوبية، أيْ حكومة هادي المدعومة من السعودية و«المجلس الانتقالي الجنوبي» المحسوب على الإمارات، أيّ برامج علاجية للقضايا الخدماتية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية، وهو ما لم يتغيّر بعد إرغامهما على تشكيل حكومة مناصفة العام الماضي، اتّخذت من عدن مقرّاً لها قبل هرب رئيسها ومعظم وزرائه على إثر الاحتجاجات الشعبية في عدن، واقتحام المحتجّين قصر المعاشيق بداية العام الحالي.
لم تطرح «اللجنة الرباعية» أيّ خطّة لحلّ الأزمة الاقتصادية بل اكتفت بالثناء على ما تقدّمه السعودية
وإذ يحمّل كلّ طرف الآخر مسؤولية الإخفاق، ويتّهمه بالفساد وسوء استخدام السلطة، فإن الوقائع تظهر أن كليهما لا يقلّان سوءاً عن بعضهما البعض. إذ تعاني ما يُسمّى «الشرعية» من تشقّقات في جبهتها الداخلية بات صعباً إصلاحها، وهو ما أنتج وضعاً مأساوياً في غاية التعقيد، وأفرز سلطات متعدّدة وحكومات وجيوشاً وميليشيات وأمراء وتجّار حروب، يعتاشون على حساب وجع الناس ومعاناتهم، وليس من مصلحتهم إيجاد حلول لمشاكلهم.
أمّا «الانتقالي»، فعلى رغم أن وزراءه موجودون في عدن، إلّا أنهم مكتوفو الأيدي، وعاجزون عن ممارسة مهامهم، ولا يمتلكون القدرة أو الإمكانات اللازمة لتسيير عمل الوزارات.
والمشكلة الأكبر التي أوقع المجلس نفسه فيها، هي أنه ركّز على اكتساب شرعية من خلال التركيز على الاعتراف الإقليمي والدولي به كـ«ممثّل وحيد للجنوب»، معتبراً ذلك مكسباً معنوياً مقابل «شرعية» هادي، لكن الأخير ومجموعة أخرى من المكوّنات الجنوبية، وبدعم من السعودية، وضعوا عراقيل سياسية ودبلوماسية حالت دون تحقّق رغبة «الانتقالي»، ونجحوا في وضعه في إطاره الطبيعي كأحد المكوّنات الجنوبية، وليس «الممثل الوحيد» للمحافظات الجنوبية.
على أن خسارة «الانتقالي» لم تتوقّف على فشله في تقديم نفسه على المستوى الدولي كما يرغب، بل إن الاحتجاجات الشعبية الأخيرة أثبتت تآكل شعبيته على نطاق واسع، إذ رفع المحتجّون في المحافظات كافّة شعاراتٍ تُحمّله، إلى جانب هادي، مسؤولية متساوية عمّا آلت إليه الأوضاع، علماً أن مسؤولي المجلس باتوا مدركين خطورة وضعهم الشعبي، وهو ما دفعهم إلى تقديم مبادرة لحوار جنوبي – جنوبي الشهر الماضي، بعد أن كانوا يرفضون سابقاً أيّ حوار.
ويُضاف إلى ما تَقدّم، أن تبعيّة «الانتقالي» للإمارات تُجبره على مراعاة التوازن في علاقته مع كلّ من أبو ظبي والرياض، التي يبدو أنها نجحت في تدجين قياداته، فلا هو قادر على الخروج من الحكومة، وبالتالي التحلّل من المسؤولية الملقاة على عاتقه، ولا باستطاعته قبول عودة الحكومة إلى عدن وممارسة مهامّها، وذلك لاشتراط «الشرعية» ومِن خلفها السعودية، تنفيذ الشقّ الأمني من «اتفاق الرياض»، والقاضي بسحب السلاح الثقيل خارج عدن، في ظلّ فقدان الثقة بين الجانبين.
وحّد الجوع وغياب الخدمات المحتجّين في المحافظات الجنوبية كافة، إلّا أن الطرفين، «الشرعية» و«الانتقالي»، يحاولان استغلال الهبّة الشعبية ليرفع كلّ منهما المسؤولية عن نفسه، ويلقيها على الطرف الآخر، على رغم أنه ينكر على المتظاهرين مطالبهم في مناطق نفوذه بادّعاء دخول مندسّين بين صفوفهم.
ويدعم «الانتقالي» الاحتجاجات في محافظة حضرموت، لا سيّما مدن الساحل وتحديداً المكلا التي قُتل فيها ثلاثة شبّان على يد قوات هادي التي استدعت عشرة آلاف مقاتل لقمع التظاهرات، فيما أعلن المحافظ فرج البحسني حظر التجوال ليلاً. لكن «الانتقالي» استخدم الأسلوب نفسه في عدن.
وبينما أعلن رئيسه، عيدروس الزبيدي، حالة الطوارئ في المحافظات الجنوبية كافة، لا تزال «الشرعية» وإعلامها يحرّضان سكّان عدن على المشاركة في «الهبّة الشعبية» والعمل على إسقاط «الانتقالي».