كشكول طفولة يصنع مهندسا
إشراق عمر
اسمي عمار (30 عاماً ) من مديرية الدريهمي بمحافظة الحديدة نطاردتني صيحات المجتمع ونظراتهم المدمرة منذ طفولتي وجعلت مشوار حياتي كشكولا نقشت فيه بأحرف من دمي ومداد أحشائي.
أردت ان اعيش طفولتي مستمتعاً بها اسوة بأقراني من اطفال العالم فالتحقت بالتعليم الأساسي واثناء نشوتي وانا احمل كل يوم حلمي الكبير الذي ينبثق من داخل حقيبتي المدرسية ، كان الشارع يهتف في اذني كل يوم مردداً ، “ما لذي سيفيدك به هذا الدفتر وهذا القلم ، انظر الى فلان يمتلك سيارة وبيتا ومزرعة وانت تتعب نفسك بحقيبة توجع كتفك “
ومع توافق معظم اهالي قريتي على ان اوقف تعليمي ومناشدتهم المستمرة واستغلالاً لطفولتي وقلة حيلتي تمكنوا حينها من توقيفي عن التعليم، وحينها كانت العزلة تدمر ما تبقى من كياني، فجلست مع ذاتي لحظات ولحظات لاتخاذ قرار يساعدني على التغلب على ما وصلت اليه، وبعد اخذ ورد ومشاورات بين عقلي وقلبي بين تعليمي وتدميري ، اتخذت قرار الهجرة من المجتمع الذي ولدت فيه الى مجتمع قد اجد فيه ما ابتغيه..
وذات يوم خرجت قبيل الفجر متنكراً لكي لا يستطيع احد مشاهدتي ،حتى لا يتم ايقافي عن الهجرة ، كونني في نظرهم طفل ويجب ان اشتغل في المزرعة واحمل واحرث الخ ، وبفضل الله تمكنت من الخروج من نطاق قريتي التي وقفت على اطلالها قائلا ( كما اخرجتموني متنكراً سأعود قائداً)،وحينها بدأت مشوار هجرتي متجاوزاً منطقة حدودية ادوس بأقدامي الحافيتين اشواك الطريق ومخلفات الحرب وطلقات حرس الحدود العشوائية ولج الظلام الدامس ، وخطوة خطوة حتى وصلت بفضل الله الى دولة مجاورة مكثت فيها 5 سنوات متتالية .
خطة خمسية صغتها لنفسي كمشوار ارسم من خلاله حلماً ، اعود به الى قريتي الريفية المتخلف مجتمعها ،اعمل من خلاله على تعديل سلوك وثقافة مجتمعي السلبية والجهل المتفشي فيها
بواقع طفولتي وقلة حيلتي ، استسلمت وقبلت مكرها ان اكون طفلاً معنفاً ، حيث عملت حمالاً مع بعض المقاولين احمل له حبات البلك ، كل يوم من الساعة السادسة صباحاً ، وحتى السادسة مساءاً ، احمل حبات البلك كي احصل على المال ، وكنت كل لحظة من لحظات يومي الذي اقضيه حمالاً ، كنت حينها احدث نفسي واذكرها بان ما احمله الآن على كتفي ليس هو البلك ،بل هو ذلك الحلم الذي اسعى الى تحقيقه، حين عودتي الى قريتي.
ذات يوم و اثناء سيري في الطريق اذرفت عيوني دموعاً، كادت حرارتها تخدش وجنتي ، حين شاهدت طفلاً بيد والده يحمل حقيبته المدرسية، منتشياً فرحاً مستشرفا لمستقبله، الذي يراه أمام عينيه، من خلال اكماله لتعليمه ومراحلة التعليمية، فأخذني التطفل وحب الاطلاع الى الذهاب فهرولت نحو ذلك الطفل معانقا ًله، متبادلاً معه ومع والده التحايا والتقدير، حينها الحيت على والد الطفل ان يذهب بي مع ابنه الى المدرسة التي يدرس فيها ابنه ( الياس ) كي انعم بنظرة اليها وحين اتجهنا نحو المدرسة جددت عهدي ووعدي لقريتي التي وعدتها ان اغير ثقافة مجتمعها السلبية.
استطعت في فترة غربتي، ان ادخر مبلغا من المال ، يمكنني من العودة الى قريتي ، وابدا في الوفاء بالوعد الذي قطعته على نفسي باتجاهها ، قريتي الريفية التي لا تهتم بالتعليم كما تهتم بالزراعة مما جعلها تغلق مدرسة مبنية فيها لفترة طويلة من الزمن.
بعد خمسة اعوام خسرتها من عمري قررت العودة ، حاملاً على عاتقي إرادة الوفاء بالعهد، الذي قطعته على نفسي عند خروجي متنكراً ، عدت اليها وكان اول حلم لي ان اكمل تعليمي ، لكن للأسف لم يكن فيها مرحلة ثانوية ،مما جعلني اذهب الى مديرية بعيدة ادرس فيها الثانوية ،وكان اول ما فعلته بعد عودتي من الغربة، هو افتتاح المدرسة المغلقة وقمت بالتعليم فيها لأطفال القرية ،بحيث اني كنت ادرس صباحاً في مدرسة بمدينة بيت الفقيه واقوم بالتدريس مساء في قريتي حتى تم اعتماد مدرسين للمدرسة وتشغيلها باستمرار..
منذ طفولتي وانا احب الرسم على الجدران وفي الاوراق ما زلت احتفظ بلوحات ورقية قمت برسمها وانا في الصف السادس وهذا ما جعلني احدد لمستقبلي زاوية فنية استفرغ فيها كل طاقتي وموهبتي وانطلقت نحو كلية الفنون ..جامعة الحديدة.
لبداوة قريتي وريفيتها كان من يمتلك جهاز راديو يعتبر الشخص المثقف في القرية وتقوقعت حينها احلامنا على امتلاك اجهزة راديو والاستماع الى البرامج الاذاعية.، وهذا ما جعل هواية الهندسة تجري في شراييني مجرى الدم، كنت استفرغ قدراتي المهاراتية في طفولتي اضافة الى الرسم في تفكيك اي جهاز راديو بجانبي ثم محاولة اعادة تطبيقه، مما دفعني ان اخذ دبلوم هندسة الكترونيات .
لعنة الحرب طارتنا ولم تبقي لنا باقية بعد ان حاولت التغلب على الفقر كي اكمل تعليمي الجامعي من خلال فتحي لمحل في قرية بالخط الساحلي في الدريهمي ، اشتعلت فتيلة الحرب ودمرت كل شيء ،مما جعلني افر نازحاً اخذا اسرتي نحو منطقة امنة ، ومكثت شهوراً وانا قاعد ومقعد لا استطيع توفير لقمة العيش، حينها لم استسلم ، وعدت الى كشكول طفولتي وقمت بمحاولة فتح محل بسيط للهندسة الالكترونية، واصبحت بفضل الله قادراً على توفير لقمة العيش، رغم امكانياتي البسيطة لمحل الهندسة، الذي يتكون فقط من كاوية عادي للحام وبعض المفاتيح…
أنهيت تعليمي الثانوي، وحينها تذكرت تلك الوعود التي قطعتها على نفسي، بأن أشق طريقي واستمر في اكمال تعليمي ،فالتحقت بالجامعة اربع سنوات قضيتها ، بكلية الفنون الجميلة قسم اذاعة وتلفزيون، مما مكني من تعزيز قدراتي في التعامل مع المونتاج والتصوير وكذلك الرسم الثلاثي الأبعاد، وما زال كشكول طفولتي زاخراً بصفحات وقفت الحرب والنزوح عائقاً امام فتح تلك الصفحات ،لاستكمال حلمي الكبير الذي كلي ثقة انه سياتي ذلك اليوم الذي انعم فيه بإنجاز، وانتاج ما ارغب بتحقيقه اسوة بكل شباب العالم.