النزوح يغتال حلم طالب جامعي
” في الوقتِ الذي من المفترضِ أنْ أكونَ فيهِ جالساً على كرسي الجامعة كبقيَّة زملائي، لأتلقَّى الدروسَ والمحاضرات ، وأكمل مرحلة تعليمي الجامعي؛ ها أنا اليوم أعملُ مضطراً في سوق الأسماك بعد أن أجبرني النزوح للبحث عن العمل ، والتوقف عن الدراسة ” .
بتلك الكلمات بدأ الشاب ( أصيل محمد ) 20 عاماً – نازح من مدينة الدريهمي محافظة الحديدة- سَردَ واقعٍ مَريرٍ تلاشَتْ فيه أحلامُهُ البسيطة، وانهزَمَتْ فيه طموحاتُه ؛ على وقْعِ فصولِ المعاناة التي يتجرَّعُها، وتتضاعفُ يوماً تِلو آخر .
ويضيف لموقع الحديدة نيوز ” في عام 2017م بدأتُ أولى الخطوات في مشوارِ الألف ميل لأحقق حلمي وطموحي ؛ بعد أن حجزتُ مَقعَدي الدراسي في قسم الإعلام بجامعة الحديدة ، غيرُ مبالٍ بمسافة الطريق ، ومشقّة السفر لحضور المحاضرات من مدينتي الدريهمي إلى مدينة الحديدة ، وبعد أن أكملتُ العامَ الأول بنجاح .. حدث مالم يكن في الحسبان، حيث انفجرَ الوضعُ ، واشتدَّت المعارك ، ودخلت الحرب في البلاد نهاية شهر يوليو 2018 “يقول أصيل ” بعد اشتداد المعارك ، ونزوح الكثير من سكان مدينتي، اضطررتُ للنزوح أنا أسرتي ، تاركين خلفنا أعمالنا وجميع ممتلكاتنا، وتوجهنا نازحين نحو مدينة المنصورية شرق البلاد ، وبدأت معنا رحلة المعاناة ، المتمثِّلة في البحث عن مأوى للاستقرار فيه ، بالإضافة إلى توفير لقمة العيش، والتأقلم للعيش في بيئة مختلفة ، ومع أشخاص غرباء لم نألفهم بعد! ” .
وتُعد مديرية الدريهمي -الواقعة جنوب مدينة الحديدة على بُعد مسافة 20 كيلو – من أكثر المديريات تضرراً جراء الحرب، حيث نزح أكثر من 30 ألف من مواطنيها، وحُرِمَ منهم الآلاف من التعليم، بينهم المئات من طلاب التعليم العالي؛ بحسب ماذكره مدير عام المديرية محمد علي صومل في مؤتمر صحفي بتاريح 28 يوليو 2020 ونقلته وكالة الأنباء اليمنية ( سبأ ) .
وبعد معاناةٍ طويلة ، وبحثٍ مستمر عن عمل ؛ حصل أصيل على فرصة للعمل في سوق الأسماك بمدينة الصَّلِيْف شمال الحُديدة ، وفي زاوية من زوايا السوق، يجلسُ مثقلاً بالهموم ، متوكلاً على الله ، عارضاً في سلَّاتِه ما جاد به البحرُ من الأسماك ليبيعها، وبانتظارهِ أسرَتُهُ الموجوعة التي لم تتوقف معاناتها بعد ؛ ليؤمِّنَ لهم قُوْتَ يومهم من أجرة عملٍ يسيرة ، يستلمها نهاية كل دوام ، لا تكفي لسدِّ احتياجات المصروف اليومي ، إنَّما تكفيه عن السؤال والحاجة إلى الناس .
يقول أصيل ” ينْـتَـابُنِي الشعورُ بالحسرة والألم حين يُصادفني موقفٌ أو حديثٌ يذكِّرُني بالجامعة ، وبالنسبة لي لم يَعُدْ خيار مواصلة التعليم متاحاً في الوقت الحالي ؛ خصوصاً بعد معاناة النزوح ، إذ لا أستطيع التوفيق بين الدراسة والعمل معاً ؛ كونهما في نفس التوقيت، وكونَه أصبح همِّي الوحيد – حالياً – هو توفير متطلبات الحياة الكريمة لي ولأسرتي ” .
وبنبرة حزينةٍ يتذكرُ الشاب أصيل الأيام التي كان يذهب فيها إلى الجامعة، واللحظات التي عاشها مع زملائه ويصفها بأنها كانت أياماً جميلة ، جعلته يشعر بأنه على مسافة قريبة من تحقيق حلمه الذي رسمه في مخيلته، منذ أن كان لايزال طالباً في المرحلة الثانوية، وهو أن يصبح إعلامياً ..
يقول أصيل : ” أشعر بحنينٍ لتلك الأيام الجميلة التي قضيتها في الكلية برفقة زملائي ، قضيت معهم عاماً دراسياً رائعاً ، وحزين جداً لتوقفي عن مواصلة الدراسة لكن ظروف النزوح هي من أجبرتني على ذلك ، كل زملائي تواصلوا معي وأبدوا استعدادهم لمساعدتي من أجل العودة للجامعة لكن الوقت غير مناسب ، سأعود يوماً ما بإذن الله لأكمل تعليمي وأحقق حلمي “.
وحول سبب اختياره للدراسة في قسم الإعلام يتحدث أصيل” كنتُ أشارك دائماً في الإذاعة المدرسية بالطابور الصباحي للمدرسَة، وكنتُ أهوى التقديم والإعداد لبرنامج الإذاعة المدرسي ، وكان الجميع يشجعني، وبعد تخرجي من الثانوية بدأت أفكر باكمال تعليمي العالي وحينها كنت متردداً في اختيار تخصصات أخرى، فجلست مع أسرتي وتشاورت معهم فكانت نصيحتهم بأن أدرس المجال الذي أحبه ، فكان الإعلام هو المجال الذي أحب، فقمت بالتسجيل في الجامعة وتم قبولي ..
يختم أصيل حديثه لموقع الحديدة نيوز بالقول ” يُحزنني ويؤسفني كثيراً الوصول لهذه المرحلة التي أوقفتني عن التعليم ، وأظن أن أغلب النازحين يدركونها جيداً ، لكنَّي على ثقةٍ بأنِّي لن أستسلمَ كثيراً لهذه الظروف ، وسأنفضُ عنِّي غبارَ اليأس الذي أبرَزَتْهُه ليَ التحديات ، وسيأتي -قريباً- اليومُ الذي أستجمعُ فيه ما تبقى من آمالٍ وأمنيات ، وأسعى لتحقيقَ الهدف والطموح الذي قد بَدَأتُهُ قبل أعوام ، ثم شَتَّتَهُ الحربُ والنزوح “.