بعد 9 سنوات من الحرب المدمرة، سوريا ما زالت رهينة للصراعات الدولية
تعصف الحرب في سوريا منذ سنوات أزمة بدأت كانتفاضة شعبية محلية وتحولت إلى نزاع شامل تعدد فيه اللاعبون على الأرض داخل البلاد وخارجها، إلى حد صار من الصعب متابعته.
تختلف وتتعدد الأسباب والعوامل التي أدت إلى نشوب هذه الحرب المدمرة في سوريا، منها أسباب جيوسياسية دولية ومنها أسباب اقتصادية واجتماعية ومنها المباشر وغير المباشر.
مع دخول الحرب عامها العاشر، تحوّلت سوريا ساحة تتبارز على جبهاتها جيوش دولية ضخمة وبلغت فيها المعاناة الإنسانية حداً غير مسبوق، فيما ذهبت هتافات صدحت بها حناجر مئات الآلاف من أبنائها المنادين بإسقاط النظام أدراج الرياح.
سوريا أصبحت من الموضوعات الأهم في العالم الآن التي توضع على جداول اجتماعات الدول الكبرى والمنظمات الدولية.
حين اندلعت الاحتجاجات السلمية منتصف آذار/مارس 2011، لم يتخيل المتظاهرون أن مطالبهم بالديموقراطية والحريات ستكون مقدمة لأكبر حروب القرن الواحد والعشرين، التي قتل فيها أكثر من 380 ألف شخص وشُرد أكثر من نصف السكان داخل البلاد وخارجها.
بعد مرور تسع سنوات، ما زال بشار الأسد على رأس السلطة. وما زالت قواته، التي تدخّلت روسيا عسكرياً لصالحها عام 2015 وتتلقى دعماً إيرانياً، توسع نطاق سيطرتها وآخرها تقدم استراتيجي في محافظة إدلب (شمال غرب) حيث سُجلت أسوأ كارثة إنسانية منذ بدء النزاع.
ورغم أن الحديث عن رحيل الأسد بات من الماضي على مايبدو، لكن سوريا اليوم مسرح لتوتر روسي – أمريكي من جهة وروسي – تركي من جهة أخرى، وإيراني – إسرائيلي. وقد فجّر النزاع فيها أزمة هجرة غير مسبوقة في التاريخ الحديث تؤرق أوروبا وترعبها.
وتدخل الثورة السورية عامها العاشر بأعداد مضاعفة من النازحين والقتلى، فبحسب أحدث تقرير للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين بالأمم المتحدة لعام 2020، فإن عدد النازحين خلال يناير/كانون الثاني وفبراير/شباط بلغ أكثر من 900 ألف، منهم 300 ألف منذ بداية الشهر الماضي.
صحيح أن سوريا لا تمتلك البترول أو موارد طبيعية كدول الخليج، ولا حتى كإيران ولكنها استطاعت جذب دول العالم بل وتطور الأمر إلى التدخل العسكري لبعض الدول فيها وحلف الأطلسي. فسوريا تقع أهميتها لروسيا التي تدعم الأسد – على سبيل المثال- في أنها الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط الذي بقي لها بها نفوذ تضغط به على أمريكا وتناطحها بها، خاصةً موقع سوريا من العراق ولبنان وفلسطين المحتلة والكيان الصهيوني والأردن. وكلها دول تشكل مصالح كبري لابنة أمريكا المدللة ولأمريكا نفسها، وستفعل روسيا كل شيء لبقاء الاسد وبقائها بالمنطقة. وقد بنت لها قاعدة عسكرية. أما أمريكا فجاءت متخفية وحذرة تحت غطاء حلف الأطلسي، فهي لن تغامر كما حدث في العراق فمازالت تلملم خسائرها من العراق حتى الآن.
الموقف الرسمي الأميركي يشير إلى “الربيع العربي” بوصفه السبب المباشر للحرب السورية كل من عاش أحداث العام 2011 يعلم أن الربيع العربي هو بالفعل سبب للحرب السورية، ولكن هناك سببا مباشرا آخرا لا تعترف به الحكومة الأميركية رغم كونه السبب الأهم.
الربيع العربي في سورية ما كان يستلزم بالضرورة اندلاع الحرب. كان من الممكن أن ينتهي الربيع العربي دون حصول حرب. حتى لو فرضنا أن الحرب كانت قدرا محتوما فإنها ما كانت ستصل إلى ما وصلت إليه دون التدخل الخارجي.
ردا على العنف والقمع الذي مارسته السلطات السورية في ذلك الوقت، لجأت بعض مجموعات المعارضة إلى حمل السلاح، ما دعا الرئيس السوري بشار الأسد إلى أن يتعهد “بسحق” من وصفهم بأنهم “إرهابيون ممولون من قوى خارجية”.
وانتشرت مئات المجموعات المسلحة من المعارضة السورية في أنحاء متفرقة من البلاد، وبدأوا قتال القوات الحكومية لينجحوا في السيطرة على منطقة تلو الأخرى حتى وصلت الحرب إلى العاصمة دمشق، وحلب، ثاني أكبر مدينة في سوريا.
بعد ذلك، اكتسب الصراع صبغة طائفية، إذ بدأت جماعات السنة في قتال جماعات مسلحة أخرى من العلويين، وهي الطائفة الشيعية التي ينتمي إليها الرئيس بشار الأسد وعائلته، وهي أيضا الطائفة التي كان يسيطر أفرادها على أغلب أجهزة الدولة.
واجتذب الصراع قوى إقليمية ودولية بدأت الاقتتال من أجل السيطرة على الوضع لتقرير مصير سوريا.
ظهرت الجماعات المسلحة منذ بداية الصراع، وكان أغلب أعضائها من المعارضين المعتدلين والعلمانيين، لكن ثقلهم على الأرض تراجع لصالح العناصر التي توصف بالمتشددة، وأبرزها “تنظيم الدولة الإسلامية” وجبهة النُصرة.
وبدأ تنظيم الدولة الإسلامية حربه الخاصة في إطار الحرب الدائرة في البلاد، إذ فتح جبهة قتال ضد جبهة النصرة والمعارضة المسلحة المعتدلة ليكسب أرضية كبيرة أثناء الصراع. لكن نفوذ التنظيم تراجع إلى حدٍ بعيد في الوقت الراهن لتتوقف إمكانياته الحالية عند شن هجمات متفرقة.
ودخل دائرة الصراع أيضا الأكراد، الذين يستهدفون إقامة دولة لهم شمال كل من العراق وإيران و سوريا ومناطق من جنوب تركيا.
ويتلقى الاكراد الدعم الكامل من القوات الأمريكية التي شنت حربا على تنظيم الدولة في المنطقة، وبدخول الأكراد في المعادلة، اكتسب الصراع في سوريا بعدا عرقيا أيضا، إضافة إلى البعدين السياسي والطائفي.
وساعدت القوات الروسية قوات الرئيس بشار الأسد على استرداد مناطق عدة سيطر عليها تنظيم الدولة وغيره من الفصائل المتحاربة في الداخل السوري، ويرجع البعض التقدم الذي حققته القوات الحكومية، الذي أسفر عن استعادة السيطرة على حلب، إلى الدعم الروسي. كما انضم حزب الله اللبناني إلى القتال في صفوف النظام السوري.
وأعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أثناء حملته الانتخابية في أواخر 2016 أن الصراع في سوريا لا يعد من أولويات الولايات المتحدة، إذ ينبغي أن تركز القوات الأمريكية على محاربة الإرهاب في شكل تنظيم الدولة في سوريا والعراق.
لا تعد الولايات المتحدة طرفا هاما في الصراع في سوريا، إذ تتربع روسيا على رأس القوىه الخارجية الموجودة في سوريا حتى تحافظ على نفوذها الدولي هناك وفي منطقة الشرق الأوسط بصفة عامة.
بعد الغزو الأميركي للعراق في عام 2003 وجد الأميركيون أنفسهم غارقين في مستنقع، ليس فقط بسبب المشاكل التي واجهوها داخل العراق وإنما أيضا بسبب موقف الدول المجاورة للعراق. ثلاث من تلك الدول (إيران وسورية وتركيا) عارضت بشدة الإطاحة بنظام صدام وشنت حربا إعلامية ضد التدخل الأميركي في العراق (قطر أيضا شنت حربا إعلامية شعواء ضد التدخل الأميركي). اثنتان من الدول المجاورة للعراق لم تكتفيا بالحرب الإعلامية ولكنهما دعمتا التمرد المسلح في العراق.
الجهود الأميركية ضد نظام بشار كانت مجرد حرب ناعمة أو باردة. هي مجرد عمل عدائي محض يهدف لتدمير أو إضعاف بلد يعتبره الأميركان معاديا لهم ولكنهم لا يرغبون في خوض “حرب ساخنة” ضده. أميركا سبق أن شنت هكذا حرب ضد الاتحاد السوفييتي وضد غيره.
هدف الحرب الباردة هو تماما كهدف الحرب الساخنة. عندما تخوض أميركا هكذا حرب فهي لا تفكر في خدمة البلد المعادي ولكنها تفكر في تقويضه وتدميره، لأن هذه حرب. عندما تخوض حربا ضد دولة فأنت تسعى لتقويض تلك الدولة وليس تحسين أوضاعها.
عندما اندلعت مظاهرات “الربيع العربي” في سورية اعتبر الأميركان ذلك فرصة ذهبية لزعزعة سورية وإضعافها. هم طبعا لا يعترفون بحقيقة موقفهم آنذاك، ولكنه كان واضحا جدا. ما يلي بعض التكتيكات التي اتبعها الأميركان في عام 2011 لمنع حصول حوار سياسي بين بشار والمتظاهرين:
وزارة الخارجية الأميركية كانت تحرض على الاستمرار في التظاهر عبر إصدار بيانات تحريضية مضللة في كل يوم خميس (عشية المظاهرات في أيام الجمعة) وعبر توجيه السفير الأميركي في دمشق للاتصال بالمتظاهرين والذهاب لمواقع المظاهرات بهدف إيصال رسائل خاطئة ومضللة للمتظاهرين.
البيت الأبيض كان أيضا يرسل رسائل تحريضية مضللة من قبيل زعم أوباما بأن “أيام الأسد هي معدودة” ونحو ذلك من الكلام الفارغ الذي لم يكن له أي هدف سوى التحريض وصب الزيت على النار.
التقليل من شأن تنازلات بشار ومحاولاته للتحاور مع المتظاهرين في ذلك الوقت ووصف كل ما يقوم به بأنه متأخر وغير كاف ونحو ذلك.
التركيز على قضايا هامشية وجعلها حجة للتصعيد ومنع الحوار، مثل النقاش حول ما إذا كان بشار قد أعطى أوامر بإطلاق النار على المتظاهرين أم لا (هذا النقاش هو مهم في الأحوال الطبيعية ولكنه هامشي وسخيف عندما يستخدم كذريعة لمنع حوار سياسي في بلد يوشك على السقوط في حرب أهلية سيهلك فيها ملايين الناس).
توفير الغطاء لقطر وتركيا لتأسيس “الجيش السوري الحر” والبدء في إرسال السلاح إلى سورية بحجة الدفاع عن المتظاهرين.
الأمور أعلاه، وخاصة الأمر الأخير، هي الأسباب المباشرة التي أدت لاشتعال الحرب في سورية. في رأينا أن تشكيل الجيش السوري الحر والبدء في إرسال السلاح إلى سورية هو الشرارة المباشرة للحرب، وبما أن أميركا هي المسؤول عن ذلك فإن أميركا هي الجهة التي أشعلت الحرب السورية.
أميركا لم ترغب بخوض مواجهة عسكرية مع إيران وسورية رغم نشاطهما العدائي ضدها في العراق، لأن أميركا لم تر أن هناك جدوى من ذلك. لو شنت أميركا حربا على نظام بشار وأسقطته فإن هذا ما كان سيحل مشكلة العراق ولكنه كان سيضع الأميركان أمام مشكلة أخرى في سورية على غرار مشكلة العراق (بل وربما أسوأ بسبب كون سورية مجاورة لإسرائيل). لهذا السبب تفادى الأميركان المواجهة العسكرية مع إيران وسورية وفضلوا الضغط على النظامين بهدف “تغيير سلوكهما”. المطلوب من نظام بشار تحديدا كان الابتعاد عن إيران.
النهج الأميركي تجلى في تقرير لجنة Baker-Hamilton لعام 2006 الذي أوصى الحكومة الأميركية بالتخلي عن فكرة إسقاط النظامين الإيراني والسوري والحوار مع النظامين، وهو ما سمي آنذاك reengagement policy. لاحقا كشفت وثائق ويكيليكس أن أميركا بدأت في العام 2006 (نفس العام الذي صدر فيه تقرير Baker-Hamilton) بتمويل جماعات سورية معارضة لنظام بشار، وأن هذا التمويل سمح لجماعة سورية معارضة بتأسيس محطة تلفزيونية مناوئة لنظام بشار في لبنان حملت اسم “بردى”. ويمكن القول ان وجود هذه القناة الممولة من أميركا هو دليل دامغ على أن أميركا سعت لخلخلة نظام بشار عشية الربيع العربي في العام 2011. الحكومة الأميركية لا يمكن أن تمول قناة معارضة لنظام حكم في دولة معينة إلا إذا كان ذلك بهدف خلخلة نظام الحكم في تلك الدولة (أشهر مثال هو وسائل الإعلام الممولة من الحكومة الأميركية التي كانت موجهة ضد الاتحاد السوفييتي ودول أوروبا الشرقية خلال الحرب الباردة). أميركا لا تفعل شيئا كهذا مع دول صديقة أو غير معادية، وحتى إن كانت أنظمة تلك الدول غير ديمقراطية.
إلى جانب تمويل قناة “بردى” كان الأميركان يضغطون على إيران وسورية عبر محكمة رفيق الحريري (التي كانت في بادئ الأمر موجهة ضد بشار ولاحقا وُجهت ضد حزب الله ثم قُتلت بعد الصفقات التي عقدها أوباما مع بشار وإيران خلال أحداث الحرب السورية). الأميركان كانوا أيضا يضغطون عبر التحقيق الدولي في قضية “المفاعل النووي” في محافظة دير الزور السورية.
المطلب الأميركي الأساسي الموجه لبشار في تلك الحقبة كان ترك حلفه مع إيران. بشار كان يظهر الرفض والتحدي للمطلب الأميركي، وأشهر مثال هو العشاء الشهير الذي جمعه في عام 2010 مع أحمدي نجاد وحسن نصر الله في دمشق، والذي وصف آنذاك في إعلام “محور المقاومة” بأنه تحد للضغوط الأميركية على بشار.
بعد حرب تموز 2006 في لبنان بدأ بشار ببرنامج تسلحي. في خريف 2006 عقد صفقة مع روسيا لشراء طائرات MiG-31 و MiG-29M/M2 وأسلحة مضادة للطائرات هي SA-18/ 9K38 Igla و Pantsir S1 (SA-22) و Buk M2 (SA-17). أيضا بشار اشترى أسلحة من إيران وكوريا الشمالية، والأخطر من ذلك هو أنه اتفق مع الإيرانيين والكوريين الشماليين على نقل تقنيات لتصنيع الصورايخ إلى سورية. أيضا الإسرائيليون تحدثوا عن تعاون بين بشار وكوريا الشمالية لبناء مفاعل نووي في سورية.
إسرائيل أثارت ضجة بسبب هذه النزعة التسلحية لدى بشار وركزت على القول بأن الأسلحة التي تصل إلى بشار سوف تنتقل إلى حزب الله. مصادر إسرائيلية زعمت أيضا أن المفاعل النووي الكوري الشمالي في شرق سورية كان مشروعا إيرانيا أقيم على الأراضي السورية لإبقائه بعيدا عن الأضواء ولعدم تحميل إيران المسؤولية في حال انكشافه.
ظاهريا الدور القطري يبدو أهم من الدور الأميركي في إشعال الحرب السورية، ولكن أميركا هي التي غطت قطر وسمحت لها بإرسال السلاح إلى سورية لأول مرة في صيف 2011 (تقريبا في نفس الوقت الذي دعا فيه أوباما لرحيل الأسد). دون الغطاء الذي وفرته CIA لقطر وتركيا (ولاحقا أيضا للسعودية) فإن هذه الدول ما كان يمكن لها أن ترسل السلاح والمال إلى داخل سورية بهدف تأسيس تمرد، لأن دعم تمرد داخل أي بلد هو عمل عدائي يعتبر من أعمال الحرب، وهو كان سيجلب ردود فعل دولية ضد قطر وتركيا لا قبل لهاتين الدولتين بها دون الغطاء الأميركي.
مؤرخو الحرب العالمية الثانية يسمون أحد أطوارها الباكرة باسم الحرب الزائفة phony war لأنه لم يشهد مواجهات عسكرية مهمة. سوف نستخدم نفس هذه التسمية للطور الأول من الحرب السورية الذي سبق التدخل العسكري الأميركي في أيلول/سبتمبر 2014، لأن ما جرى في سورية خلال ذلك الطور لم يكن حربا بالمعنى الحقيقي للكلمة وإنما مجرد فوضى عبثية. أميركا خلال العام الأول من ذلك الطور لم تكن جادة في محاربة بشار ولم تكن تفعل شيئا. في العامين اللاحقين قررت أميركا أن تتدخل ولكنها عجزت عن تحويل قرارها إلى واقع بسبب الموقف التركي. بالنسبة لبشار فهو في العام الأول كان يبدو كحكومة تحارب متمردين، ولكنه في العامين اللاحقين انهار وخسر صفته كحكومة.
لن يكتب النهاية للازمة السورية سوي أحد القوي الدولية الكبرى وهي أمريكا أو روسيا، التي تناطح كل منهما كالنعاج داخل سوريا، لاستعراض كل قوتهما وسيطرتهما على منطقة الشرق الأوسط. إذا اتفقتا روسيا وأمريكا وتنازلت إحداهما للأخرى تحت أي ظرف أو مصلحة في مكاناً أخر، ستنتهي الحرب السورية في غضون عام. والدليل على ذلك هو تنظيم داعش الذي ظهر من اللامكان وانتهي في اللامكان، لا أحد يدري من كان يدعم هذا التنظيم بالأسلحة والأموال وحتى الأشخاص والتدريبات. فالشعب السوري لم يكن قادراً على هكذا تمويل. والسؤال الذي يجب أن يطرح ليس متي يرحل بشار أو تنتهي الحرب، بل متي تتفق مصالح روسيا وأمريكا في سوريا؟
ليلا حسن
المنابع:صحف ومواقع