المؤجِّر والمستأجر.. تداعيات الحرب تؤزِّم العلاقة بينهما
الإيجارات قضية ليست بالشائكة، تبدأ بعلاقة تبادل منفعة بين طرفين اتفقا على أن يكون السكن مقابل المال لفترة محددة مدونة في عقد إيجار حماية لحقوقهما إلا أنها غالبًا خاضعة لإرادة ورغبة المؤجر في استرداد أملاكه في نهاية المطاف شريطة إبلاغ المستأجر بموعد الإخلاء قبل ذلك بفترة مناسبة ليجد منزلاً للإيجار بديلاً ولكن.. الأمر ليس بهذه البساطة، فقد تتخلل المدة الزمنية للإيجار اشتباكات كلامية وتصرفات استفزازية من الطرفين إما تضييقًا على المستأجر أو استغلالاً لظروف المؤجر المالية، فضلاً عن حدوث خلافات بينهما تتعلق بخدمات العقار (البيت أو المحل) المختلف حوله من مياه وكهرباء أو نقضٍ للعقد المبرم كتحويل المستأجر الغرض من العقار لشيء آخر أو طلب المؤجر زيادة في المبلغ المتفق عليه.
الثورة / سارة الصعفاني
لم تكن المشكلة عميقة في السنوات الماضية في التزام المستأجر بدفع الإيجار واستطاعته حل المشكلة في حال طلب المؤجر زيادة في المبلغ بعد سنوات أو عرضه إصلاح المنزل مقابل خصم في الإيجار، بخلاف ما يحدث اليوم في سنوات الحرب العدوانية والنزوح والأزمات المعيشية وتوقف الرواتب وتسريح موظفي القطاع الخاص والمختلط إنها أزمة مالية وضعت المؤجر والمستأجر في مأزق أخلاقي وإنساني مُتبادل نتيجة العدوان والصراعات السياسية والأزمات المالية والنفسية المتصاعدة التي انعكست على حياة المواطن البسيط حد وصول مشاكل السكن لأقسام الشرطة والمحاكم بعد أن سادت فكرة الغلبة للأقوى والأطول نفسًا دونما التفات لمن الحق، إذ لم تعد عقود الإيجار المؤقتة ولا طويلة الأمد تحسم القضية بعدالة بعد أن صار المستأجر والمؤجر ضحايا، فالأخير يعرض بيته لمن يمتلك المال والالتزام بتسليم تكلفة الخدمة شهريًا، وقد يفرض اشتراطات ومواصفات انتقائية في المستأجر المحتمل لا تخلو من استغلال حاجة الناس – بعد أن صار الطلب يفوق العرض ،واستجدت إشكاليات غير متوقعة خلفتها الحرب والظروف المعيشية القاسية دفعته لاستحداث مطالب في محاولة لتأمين دخل يكفيه وأسرته.
في المقابل يرضخ المستأجر للواقع المر، وقد يتعنت رافضًا المغادرة مستغلاً فترة التقاضي في المحاكم في العيش في السكن لأشهر وسنوات إضافية وربما انتهت القضية بمغادرته دون سداد ما عليه من مديونية للمؤجر، فالظروف قاهرة تحت أزيز طائرات العدوان والتغاضي ضرورة، ولا نصوص قانونية تقضي بسجن المستأجر المعدم ولا إثباتات عن حالته المادية.
في الواقع يأخذ الإيجار حصة الأسد من ما تملكه الأسرة من مال في زمن انقطعت فيه الرواتب ومصادر الدخل ولا فرص عمل تلوح في الأفق لكنه مبلغ لا يفي بمتطلبات المعيشة لـ مؤجر بسيط ، فالأسعار تتصاعد والعملة في تراجع.
إلا أنه لم تعد الشقق السكنية متاحة أساسًا بعد أن أصبحت العاصمة والمدن الرئيسية مكتظة بالمواطنين النازحين من الحرب و الباحثين عن فرصة عمل أو دراسة أو استقرار هربًا من البناء المكلف في القرية أو إمكانية العيش في محافظة أخرى مع ذلك.. لا شيء يبرر الاستيلاء والتحايل أو التجرد من الإنسانية.
مشكلة أخرى تبرز للسطح الافتراضي، فالمساحة الواسعة لأي بلد تتقلص عندما يكون البناء أفقيًا، وهذا ما لا ينبغي أن يستمر في ظل الكثافة السكانية المتزايدة، إذ أصبحت المنازل والأحياء السكنية في مدن العالم شققًا في عمارات سكنية ضخمة (نظام تمليك وإيجار) لتستوعب عشرات الآلاف من المواطنين في قلب المدن، وتقلص اللامعقول من ميزانيات الدول.
وبالرغم من ذلك ما تزال أزمة البيوت والأجور مشكلة عالمية بتفاوت، وما تزال القضية تطرح من حين لآخر .. في كاليفورنيا تحولت وسائل المواصلات الخاصة لمنازل احتجاجًا من مواطنين على عدم توفير الحكومة شققًا منخفضة الكلفة، باعتبار السكن من أبسط الحقوق الإنسانية وحتى لا يكون المواطن لاجئًا مشردًا في وطنه مع إمكانية تطبيق نظام التقسيط الممتد لسنوات لذوي الدخل المحدود في الدول النامية.
إنها فكرة إنسانية وتجارية دفعت الحكومات ورؤوس الأموال حول العالم لإنشاء مشاريع خدمية واستثمارية نظامية، وفي مقدمتها الوحدات السكنية كأولوية معيشية للناس عبر وزارات وهيئات الإسكان آخذة في الاعتبار المخطط الاستراتيجي العام للمدن ونسبة الزيادة السكانية المتوقعة، وفق خطة زمنية لمشروع (الإسكان ميسور التكلفة).
وتعد الإدارة العامة للإسكان التركية (طوكي) التي تم إنشاؤها في تركيا بتاريخ 1984م نموذجًا لحل مشكلة الإسكان المتراكمة بتنفيذ استراتيجية تُلائم الظروف الصعبة لتركيا في ذلك الوقت؛ إذ تقوم بشراء الأراضي التي ستبني عليها البيوت السكنية المخصصة للمواطنين متدني الأجر وتسلمها للمقاولين ليقوموا بإنشاء المدن السكنية الضخمة عليها، وبدلاً من دفع الأجرة النقدية للمقاولين، تتقاسم معهم بعض الشقق التي تساوي الأجرة ، وبذلك تستطيع إتمام مدن ضخمة من دون دفع نقدي مسبق مع تحديد حد أقصى للإيجار ووقف الزيادة المستمرة ، لا كما يحدث من اقتطاع المؤجر لجزء من بيته وعرضه للإيجار بنفسه وصولاً لعرضه في المزاد غير المعلن لمن يدفع أكثر بما في ذلك من خطورة أمنية، فربما كان المستأجر خلية إرهابية إضافة إلى استغلال حاجة المواطن المستأجر الطامع في إيجاد موطئ قدم له وعائلته في المدينة للعيش فيه وإن في مبنى متهالك في منطقة عشوائية بعيدة عن مؤسسات البلد ومتنزهاته بل إن هناك عمارات سكنية دون المستوى باهظة الكلفة قياسًا إلى المساحة، ومستوى الخدمة، ومتوسط دخل الفرد في بلد تحت خط الفقر المدقع .. وضع يستوجب مساندة الدولة مواطنيها ومعالجة الاختلالات.
عربيًا أجرى المعهد العربي لإنماء المدن دراسة توصلت إلى أن نحو 60 % من سكان المدن يقطنون بمنازل مؤجرة في مناطق غير مؤهلة للعيش الصحي والآمن(العشوائيات)، واحتلت اليمن الصدارة حيث بيوت الصفيح والقش والأنقاض في أماكن متفرقة من الوطن.
وتقدر الأمم المتحدة عدد الأشخاص الذين يعيشون في أماكن غير مهيأة للسكن على المستوى العالمي بنحو 850 مليون نسمة في عام2018م، متوقعة ارتفاع العدد إلى مليار نسمة في عام 2020م.
وتبقى أزمة السكن عالمية الانتشار ، أشد قسوة في العواصم التجارية والمدن السياحية لكنها في بعض الدول النامية خليط من مشكلات الدول، حيث العجز في توفير سكن لمواطن فقير يمثل الأغلبية، وبأجور آخذه في الزيادة بعيدة كل البعد عن الواقعية والمسؤولية المجتمعية، وخاضعة لرغبة المؤجر لا القيمة الفعلية للبيت.
وبحسب التصنيف السنوي لمؤشر ميرسر لجودة الحياة لعام ٢٠١٩م جاءت اليمن في المركز (229) من عدد (231) مدينة في مختلف قارات العالم، وتستند الشركة لعشرة محددات من بينها السكن (تأجير السكن وشروط تملك السكن والأثاث وخدمات الصيانة).واحتلت استراليا وكندا والصين ونيوزلندا قائمة أسواق عقارات المدن باهظة التكلفة في العالم لعام 2020م في المسح الديمغرافي السنوي الـ16 المتعلق بالقدرة على تحمل تكاليف السكن على المستوى الدولي.
مناط بالحكومة
وتعد أجور السكن في اليمن متوسطة إلا أن العملة في تدهور ولا مال يكفي بين أيدي الناس، ما يفرض تدخل الحكومة بفرض قيود على الإيجارات بما يتناسب والقيمة الفعلية للعقار كما فعلت بريطانيا منذ الثمانينيات لضبط الزيادة الطامعة في الأجور إلى أن تُحل أزمة السكن بمشاريع إسكانية حكومية، وتخفيض ثمن متطلبات البناء للراغبين في الخلاص من استنزاف العملة النادرة في بيوت الإيجار.. وبحسب مراقبين بدلاً من الاعتماد على فرض القيود يجب بناء المزيد من المنازل والوحدات السكنية ليزيد المعروض وتنخفض الأسعار، وترتفع المواصفات والجودة تلقائيًا.
وكانت حكومة الإنقاذ قد أعلنت منتصف أغسطس الماضي عزمها إقرار وتنفيذ لائحة تعديل قانون المؤجر والمستأجر تتلاءم مع ما يعانيه المواطنون في زمن العدوان والصراعات السياسية والأزمات المالية الخانقة، وتكفل حقوق الطرفين بعد أن شهدت المحاكم آلاف الدعاوي للإخلاء في ظل الفقر واختلال العقود وحيرة القضاء في التعامل مع القضايا بالاحتكام إلى نصوص قانونية استوعبت الحروب والكوارث إلا أنها وُضِعت في زمن مختلف لم يخض في تفاصيل الشروط والإجراءات قانونيًا بما يصب في مصلحة الطرفين.
وتأتي اللائحة انطلاقًا من المادة رقم 211 في القانون المدني الصادر عام 2002م الأقرب لظروف البلد في الوقت الراهن، وتنص على أن: ( العقد ملزم للمتعاقدين فلا يجوز نقضه ولا تعديله إلا باتفاق الطرفين أو للأسباب التي يقررها القانون الشرعي، ومع ذلك إذا طرأت حوادث استثنائية عامة كالحروب والكوارث لم تكن متوقعة وترتب على حدوثها أن تنفيذ الالتزام التعاقدي وإن لم يصبح مستحيلاً صار مرهقًا للمدين بحيث يهدده بخسارة فادحة لا يستطيع معها المضي في العقد ولا يعني ذلك ارتفاع الأسعار وانخفاضها جاز للقاضي تبعًا للظروف من فقر أو غنى وغير ذلك، وبعد الموازنة بين مصلحة الطرفين أن يرد الالتزام المرهق إلى الحد المعقول).
وإلى أن تحل الحجرة البيضاوية ( إيكوكابسول) أزمة السكن عالميًا وتصل إلينا حسب الشركة المصنعة (نايسل أركيتكتشر)، وقبل أن ينصب المواطنون الخيام في الطريق العام اضطراراً فإنه يتوجب على (حكومة الإنقاذ) التأسيس لمشاريع إسكانية واستغلال المباني الحكومية المتعثرة لبناء مستشفيات ومباني سكنية تأسيًا بدول عربية مرت بالظروف ذاتها ومواكبة للكثافة السكانية المتزايدة مع مرور السنوات ؛ فالقوانين واللائحة المستحدثة المنتظَرة المنظمة والموضحة للعلاقة بين المؤجر والمستأجر على أهميتها وضرورتها إلا أنها ستنصدم بصخرة الواقع إن لم تقترن بالبت السريع في القضايا محل الخلاف على مستوى الحي لكثرة المشكلات المتراكمة بين المؤجرين والمستأجرين ولخصوصية القضية التي لا تقبل التسويف فالتشرد على بعد خطوة، فضلاً عن حق المؤجر – في نهاية المطاف- في استرداد أملاكه، وحاجة (المواطن) المستأجر الملحة لسكن (ميسور التكلفة)يلبي احتياجاته الإنسانية ويستوعب أبناءه، ورغبة المجتمع في العيش بسلام وأمان في مدن حضارية صحية تعكس الجانب المضيء للشعب في أحلك الظروف بعيداً عن عنف المعارك الكلامية والانفعالات النفسية والجلطات الدماغية، ومأساة التفتيش عن ملجأ سكن وإن بحجم ثقب باب في وطنك الممتد من قلبك حتى آخر قطعة أرض تشرق فيها شمس بلادك.
لقد بات ضروريا أن تدرج الحكومة في خططها وبرامجها قضية الإسكان باعتبار المسكن حق للمواطن مثله مثل الحق في الحياة والتعليم وغيرها، وهذا ما نصت عليه المواثيق الدولية الموقعة عليها بلادنا كوثيقة الحقوق المدنية والاجتماعية وهي عهد دولي ملزم للدول بتنفيذها.