اليمن.. نساء في مواجهة التبعات الاقتصادية للحرب
يكابد اليمنيون لهيب حرب مستمرة، ألقت على كاهلهم حملًا ثقيلًا يفوق تحمل الفرد الطبيعي، بعد أن امتدت آثارها لتنال من كل تفاصيل حياتهم خلال ستة أعوام.
حسب تقارير أممية، جعلت الحرب من اليمن “أسوأ كارثة إنسانية على مستوى العالم”، حيث يقع 80% من السكان في مرمى “المجاعة”، مع تحذيرات من أن تسوء الأوضاع أكثر في حال استمرار الوضع الراهن. على الرغم أن الحرب عمياء لا تميز بين صغير وكبير أو ذكر وأنثى، إلا أن جحيمها لفح النساء والأطفال بصورة أكبر، كون النساء والأطفال هم الأكثر استضعافًا في البلاد، والأقل قدرة على الدفاع عن أنفسهم أمام جائحة الحرب.
وضاعف التحاق الكثير من الرجال بالأطراف المتنازعة في البلاد، من سوء الوضع الاقتصادي لآلاف العائلات التي تعتمد اعتمادًا كليًّا أو شبه كلي على الذكور من العائلة في الدخل وتصريف أمور البيت المعيشية. وإضافة إلى ذلك، يتعرض المدنيون لانتهاكات مختلفة من كل الأطراف المتنازعة، كالقتل والاختفاء القسري، الاعتداء على المنازل، والقصف الذي إذا لم يتسبب بموت المواطنين وتدمير منازلهم، فهو يصيبهم بالذعر. هذا الشعور بعدم الأمان يضطرهم لمغادرة منازلهم ومناطقهم والالتحاق بمخيمات النازحين، عُزّلا من كل مقومات الحياة ومصادر الدخل، وأحيانًا كثيرة تصل النساء إلى هذه المخيمات وقد فقدن عائل الأسرة، فيبدأن بخوض معاناة جديدة ومختلفة مع البحث عن مصادر عمل لإعالة أطفالهن، في وضع تغيب فيه ظروف العمل الآمن للمرأة.
بفعل التدهور العام في اقتصاد البلد الفقير والمدمر، تجد المرأة نفسها تقاوم ظروف الحياة وحيدة أمام قائمة معاناة لا حصر لها. ظروفا تتوالى فيها مصاعب الحياة التي تكون فرص الحفاظ عليها أحيانًا مهمة شديدة المشقة، أما النجاة من الموت نتيجة القصف الجوي والمدفعي ورصاص القناصة، فتعتمد على الصدفة والحظ دون وسيلة حماية يمكن اللجوء إليها. وفي حال نجت المرأة من الموت، وقف أمامها واقع النزوح وصعوبة توفر مقومات الحياة الضرورية، كالأدوية والغذاء والمياه.
في ظل متغيرات الحرب التي تنعكس على نفسيات وسلوك المجتمع، وترفع وتيرة العنف، لم تعد متطلبات الحياة المادية هي العوامل الوحيدة المفقودة، بل أصبح الحفاظ على استقرار الأسرة مهمة بالغة الثقل على كاهل المرأة إن تمكنت من حماية أطفالها من الجوع والتشرد والمرض، ونجحت في كسب لقمة العيش التي تسد بها الحاجة. مع لجوء المرأة إلى العمل لمواجهة متطلبات الحياة، وفي حال كانت مؤهلة علميًّا، فالعمل، على سبيل المثال لا الحصر، في مؤسسات التعليم الأهلية لا يدر دخلًا كافيًا، بل إنه قد لا يكفي لتغطية المواصلات بين المنزل والمدرسة أحيانًا. لهذا اضطرت بعض النساء اللواتي يمتلكن فرصًا أكبر لممارسة أعمال جديدة، مثل التجارة الإلكترونية التي توسعت وانتشرت في اليمن خلال سنوات الحرب، والعمل كوسيط شراء بين المواقع الإلكترونية والعملاء، مقابل نسبة ربح منخفضة.
نموذج ملهم
هبة عبدالجبار، وهي سيدة أعمال يمنية مقيمة في لندن، افتتحت منذ بداية الحرب في اليمن مشروعها الخاص، في ظل حصار خانق على مدينة تعز واليمن عمومًا، فقدمت بذلك مثالًا إيجابيًّا للمرأة التي تحوّل المخاطر إلى فرص نجاح.
تقول هبة لـ”خيوط”: “في بداية اندلاع الحرب وجدت نفسي في ورطة كبيرة حين قررت النزول للتسوق لزفافي ولم أجد شيئًا. من هنا بدأت بالتفكير في مساعدة نفسي والعديد من النساء شعرن بذات القلق الذي مررت به، فقمت حينها بتوريد البضائع من مواقع عالمية، مع صعوبات كبيرة في إدخال تلك البضائع، بداية من إرسالها من البلد المنتج، مرورًا بالسعودية، ثم الصعوبة الحقيقية بإدخالها لليمن، ومعاناة نقلها على ظهور الحمير عبر الجبال”.
ألهمت هبة العديد من الشابات إلى التجارة الإلكترونية، وبعضهن أصبحن مالكات متاجر، توفر منتجات لم تكن تتوفر في السوق اليمني البتة، “أصبح متجري الإلكتروني معروفًا على امتداد البلاد، ويحظى بسمعة جيدة في أوساط النساء”، تضيف.
لم تكن الفئة الأفقر من النساء وحدها من التحقت بسوق العمل، فحتى الفئة المتوسطة، مع تقلص مصادر الدخل، سعت إلى النشاط الاقتصادي بشكل مختلف، كاستيراد بضائع ومنتجات لا يوفرها السوق بالصورة التي يرغب بها المستخدم. وحتى مهنة التصوير، التي تعتبر من المهن الجديدة كليًّا بالنسبة للنساء، اقتحمتها المرأة مؤخرًا.
تقول رشا صدام لـ”خيوط” إن الحرب أدخلتها إلى سوق العمل في سن مبكرة، إذ بدأت بالعمل كمصورة فوتوغرافية للمناسبات في سن السابعة عشرة، ولم تكن قد أكملت الثانوية بعد، لكن انقطاع الرواتب والنزوح من الحديدة إلى صنعاء، كانت من أبرز الأسباب خلف انخراطها في سوق العمل.
وتضيف رشا: “شجعتني والدتي وأخي للاستمرار، وتحديدًا بعد عدم تقبل مهنتي من المجتمع، وبعد فترة، أصبح لدي استديو خاص بي، وتمكنت من استئجار منزل يضمني مع عائلتي بعد جولات من التشرد والنزوح”.
لا يزال الريال يتمتع بوضع أفضل (600 ريال للدولار الواحد) في المناطق التابعة لحكومة صنعاء، إلا أن هذا الفارق لم ينعكس على استقرار أسعار المواد الغذائية
لكن على الجانب الآخر، هناك الكثير من النساء أرغمتهن الحياة على ممارسة أعمال مختلفة، لم يكنَّ ليمارسْنَها في وضع أفضل من هذا، كالعمل في المنازل أو رعي الأغنام، ووصل الأمر بالفئة الأشد فقرًا وتضررًا من الحرب، إلى التسول.
تعتبر القوى العاملة من النساء في اليمن هي الأقل مقارنة مع الذكور، فالعديد من النساء يعتمدن على أرباب البيوت من الذكور أو يحرمن من ممارسة العمل خارج المنزل لأسباب تقليدية، تحتكم لأعراف اجتماعية حتى في غياب وجود عائل للأسرة من الذكور. تشير دراسة قامت بها منظمة العمل الدولية والجهاز المركزي للإحصاء في اليمن عام 2015، إلى أن معدل مشاركة المرأة في سوق العمل هي الأقل ولا تتجاوز نسبة 6.0% مقابل معدل مشاركة الرجل 65.4%، والشباب 25.8%، مع ارتفاع في منسوب البطالة في صفوف النساء بنسبة 26.1%، مقابل الرجال الذين لا تتجاوز نسبة البطالة في أوساطهم 12.3%. أما الشباب الذين يعانون البطالة، فنسبتهم 24.5%، لكن بالمقارنة مع نسبة النساء من إجمالي عدد السكان، التي تبلغ النصف بهامش أقل من 1% تقريبًا وفق نتائج آخر تعداد عام للسكان في 2004، فإن هذا المؤشر يكشف أن المجتمع اليمني يقف على ساق واحدة ويترك ساقه الأخرى مهملة دون استثمار ولا مشاركة، على الرغم من أهمية ذلك لحالة التوازن.
التحقت العديد من النساء اليمنيات بسوق العمل من أجل رعاية عائلاتهن، وهذه الخطوة تعتبر إيجابية لإشراك المرأة في الحياة العامة، وإن كانت متأخرة وناتجة عن الضرورة الملحة وليس عن تخطيط أو تغيير في السياسات العامة أو ثقافة الإقصاء المجتمعي. غير أن دخول المرأة سوق العمل في وقت صعب لا تتوفر فيه فرص عمل جيدة، تعدّ مجازفة من قبل المرأة، فقد تجد الكثير من العراقيل أمامها تمنعها من التقدم وتطوير مهاراتها بما يتناسب مع متطلبات السوق، خاصة أن أغلبية النساء لا يمتلكن الخبرة اللازمة، ولم يمارسن أعمالًا خارج منازلهن لأسباب مجتمعية وثقافية.
على مدى طويل من الزمن، عانت المرأة اليمنية من المنع والحرمان من مواصلة التعليم والالتحاق بسوق العمل، باستثناءات قليلة لم تتجاوز المدن الرئيسية غالبًا فيما يتعلق بالعمل. كان هذا الحرمان سببًا رئيسيًّا في تدني مؤشرات القوى العاملة من النساء وانتشار البطالة، وهذا ما جعل النساء في ورطة اقتصادية كبيرة، في ظل الظروف التي تعصف بالبلاد، وحتى المساواة في مواجهة الكارثة لم تكن متاحة، نتيجة لعدم تحقيق المساواة بين الجنسين؛ حيث ظلت اليمن في ذيل المؤشر العالمي من ناحية المساواة في تقارير المنتدى الاقتصادي العالمي.
توسّع الأزمة الاقتصادية
عصفت الأزمة الاقتصادية بالمواطنين مع التدهور المستمر في سعر الريال اليمني مقابل الدولار، حيث وصل في مناطق سيطرة الحكومة المعترف بها دوليًّا قرابة 800 ريال للدولار الواحد. وفي حين رفضت حكومة صنعاء التابعة لسلطة أنصار الله (الحوثيين) تداول العملة الجديدة في مناطق سيطرتهم، لا يزال الريال يتمتع بوضع أفضل (600 ريال للدولار الواحد)، إلا أن هذا الفارق لم ينعكس على استقرار أسعار المواد الغذائية كثيرًا، وعلاوة على ذلك، زاد من حدة تدني الوضع الاقتصادي واختلاف قيمة الدولار من منطقة لأخرى.
في إبريل/ نيسان 2020، نشر البنك الدولي تقريرًا كشف أن اليمن يشهد أسوأ أزمة اقتصادية وإنسانية واجتماعية بشكل غير مسبوق. وأسهم الضرر الذي لحق البنية التحتية في تعطيل الخدمات الأساسية وتأخير إعادة تأهيل صادرات النفط التي كانت أكبر مصدر للعملة الأجنبية، كما وضح التقرير أن نزاع السلطتين في عدن وصنعاء، على البنك المركزي اليمني، فاقم من الأزمة الاقتصادية والإنسانية.
وحذر مارك لوكوك، منسق الإغاثة الطارئة في الأمم المتحدة، أمام مجلس الأمن في 28 يوليو/ تموز 2020، من أنه “لم يسبق للأزمة الإنسانية في اليمن أن كانت أسوأ من ذلك”، وركز لوكوك في إحاطته على الاحتياجات المتزايدة مع انتشار كوفيد-19، وتصاعد النزاع وانهيار الاقتصاد اليمني، موضحًا أن نقص التمويل لعمليات الإغاثة، زاد من تردي الوضع الإنساني في البلد. وقال منسق الإغاثة الطارئة: “الوكالات الإنسانية على وشك الإفلاس مرة أخرى” بعد تعهد المانحين بدفع نصف المبلغ المطلوب للعمل الإغاثي في اليمن فقط.
في السياق ذاته، حذرت منسقة الشؤون الإنسانية في اليمن، ليز غراندي، من عواقب تأثر العمليات الإنسانية في اليمن بسبب ضعف التمويل، وبحسب الأمم المتحدة، فإن العديد من برامجها الإغاثية في البلاد، معرضة للإغلاق ما بين شهري أغسطس/ آب، وسبتمبر/ أيلول 2020، بسبب نقص التمويل.
وسبق أن توقفت العديد من البرامج الإغاثية التابعة للأمم المتحدة في إبريل/ نيسان 2020، في بعض المحافظات الشمالية الواقعة تحت سلطة أنصار الله (الحوثيون)، ما ضاعف من معاناة العائلات التي تعاني من الفقر وتبعات الحرب، كالنزوح والتشرد. وتوقفت على وجه التحديد برامج الرعاية الصحية، التي كانت تقوم بمهام المرافق الحكومية المعطلة، وتسبب هذا التوقف بأضرار لحقت بقرابة مليوني مستفيد من الرعاية الصحية التي تقدمها هذه المراكز، بمن فيهم 265,000 امرأة وفتاة يحتجن إلى خدمات الصحة الإنجابية.
تقول فاطمة (اسم مستعار)، إحدى المستفيدات من برامج المنظمات الدولية، التي كانت تقدم لها الدعم: “بعد أن توقف الدعم الذي كنت أتلقاه أنا وأسرتي، أصبحت الأمور أكثر تعقيدًا وصعوبة، الوجبة التي نأكلها وسط اليوم تنازلنا عنها من أجل توفير الغذاء لأيام قادمة”. تعاني فاطمة من ارتفاع ضغط الدم وأمراض أخرى، وفي حديثها لـ”خيوط”، تبدي مخاوفها من أن يزيد حال عائلتها سوءًا إذا استمر الوضع هكذا، خاصة أن أطفالها صغار، وزوجها عاطل عن العمل، والدخل الذي تجنيه شهريًّا من عملها، كمدبّرة منزلية، لا يكفي لتوفير الغذاء حتى لأسبوع.
تضيف فاطمة: “وصف لي الطبيب أدوية منتظمة مدى الحياة، والمبالغ التي أصرفها على الأدوية كسرت ظهري، كثيرًا ما أفكر في وقف العلاجات وما كان مقدرا من الله سيأتي، لا أخاف من الموت لأننا نعيشه كل يوم”.
تواجه المرأة اليمنية حياتها الشاقة ببسالة، وتؤمن أن مضمار الحياة مليء بالشوك وآلاف الحواجز والعادات، والفقر والبطالة. تقارع الخوف والحرب، لكن رغم المشقة التي تعيشها حاليًّا والتحديات اليومية والضغط الاقتصادي، ما زالت تسعى وتعمل وتقاوم، وهذا كفيل بمنح بصيص من الأمل في القلوب والإلهام للسعي نحو الأفضل.