الإسكان في اليمن.. المهمة الغائبة عن الحكومات طيلة خمسة عقود
لا ألحقك الله خير يا حاج حمود.. لو كنت صبرت علينا لا بعد الإمتحانات ..” هكذا انفجرت نوال وهي تهش النامس الذي يحوم حول رأسها وقد خلت بنفسها في المطبخ ، فهو المكان المناسب لاستذكار دروسها بعيدا عن شخير أخوانها الأربعة .
الثورة /محمد شرف
نوال في السابعة عشر من عمرها ، تسكن مع أسرتها المكونة من سبعة أفراد في مديرية شعوب بالعاصمة صنعاء، وتحت ضغط الظروف وجشع المؤجر ، اضطرت الأسرة إلى إخلاء مسكنها السابق و العيش في منزل من غرفتين مساحة كل منها لا يتجاوز العشرة أمتار .
محمود والد نوال يعمل مدرسا و يستغل بقية يومه في أعمال حرة بحسب الظروف . يقول محمود : ” كانت الأمور ماشية والحال مستورة قبل العدوان والحصار الظالم ، لكنها استاءت بقطع الرواتب ، ومع ذلك كنا نوفر الإيجار الشهري على حساب احتياجاتنا الأخرى .. ويستطرد : كنا نسكن في شقة واسعة من أربع غرف طيلة خمسة عشر عاما ، أول سنة كان إيجارها 13ألف ريال ، وارتفع سنويا حتى وصل قبل عامين إلى 40 ألف ريال ومع ذلك كنا صابرين وملتزمين بالإيجار، ومع بداية السنة الماضية بدأ المؤجر بمضايقتنا ومطالبتنا بـ 60 ألفاً شهريا أو إخلاء الشقة.. فشلت كل الوساطات ، حتى قسم الشرطة يتدخل كوسيط للإخلاء ، ولسان حالهم في الأقسام ” هو صاحب البيت، ما نقدر نغصبه ” .
يضيف محمود : ” قبل شهرين اضطررناازمة السكن وارتفاع ازمة السكن وارتفاع لإخلاء الشقة واستئجار هذا المنزل ، بـ 40ألف ريال شهريا ، رغم صغره وحالته وموقعه ” .
وبحرقة أضاف : ” ما يحزنني أن انتقالنا إلى هذا المنزل الصغير جاء قبل الإمتحانات ، والمنزل لا يوفر مناخا مناسبا للمذاكرة ، حيث لدي بنت في ثالث ثانوي وابن في المرحلة الأساسية .” .
حنبنا في الأثاث
أم نوال التي كانت تتابع حديث زوجها من شباك مطل على الرصيف هي التي حكت لنا قصة إبنتها نوال مع النامس في المطبخ ودعوتها على ” الحاج حمود ” .
استغلت أم نوال صمت زوجها لابتلاع غصته، واستأنفت سرد معاناة نوال في المطبخ ، وقالت : ” مش النامس بس هو اللي يشغلها وهي بتذاكر في المطبخ .. الحنفيات الخربانة ما تتغلقش ، وطول الوقت وهي بتوطل” .
وتضيف : قلنا لصاحب البيت عنصلح الزجاج المكسور والحنفيات ونخصمها من الإيجار ، قال مع .! ” .
وكررت دعوة إبنتها ، ولكن بصفة الجمع ” لا ألحقهم الله خير ” سألناها : من هم يا حجة ؟!
قالت : المؤجرين الجشعين ، واللصوص اللي سرقوا مالنا في ” جمعية الحتارش ” والمسؤولين اللي بنوا لأنفسهم قصور وتركونا طول أعمارنا .. ولا ألحقهم الله خير من يتفرجوا على الظلم والمنكر وما يغيروه ولعنة الله على تحالف العدوان من قبل ومن بعد، ورعى الله سيدي عبدالكريم “.
أضافت أم نوال وهي تحاول إغلاق النافذة : ” حنبنا في أداتنا ، غرفتين “حقق” بأربعين ألف ، لا هي تتسع للسرير ولا لقينا مكان للدواليب ، ونص الآثاث مربط .. وبأربعين ألفاً !!
“وجدت صعوبة في إغلاق النافذة، والخشب راوي من المطر، فانتهزنا الفرصة لسؤالها: من هو سيدي عبدالكريم وما فعل لكم؟!
أجابت: سيدي عبدالكريم الحوثي وزير الداخلية هو أول مسؤول خلانا نحس إنه عاد به دولة عاد به مسؤولين يقفوا مع المستأجرين المساكين.. وسألتنا أنتم سمعتم تحذيره أقسام الشرطة بالا يكونوا يتعصبوا مع المؤجرين أو مع؟ّ! نعم سمعنا والله يرعاه.
السكن.. ضرورة بيولوجية
أسرة محمود مجرد نموذج لعشرات الآلاف من الأسر اليمنية التي وجدت نفسها في ظل أزمة السكن والإيجارات تعيش حالا أشبه بالتشرد والضياع .
من المسؤول عن وصولنا إلى مثل هذا الحال ، وما هي انعكاساته الاجتماعية والنفسية على الأجيال التي تعيش في هذه الظروف ؟! وما هو الدور المنوط بالسلطات في المحافظات الحرة لمعالجة هذه الظاهرة والحد من تداعياتها الخطيرة على الأسرة والمجتمع والدولة بشكل عام ؟!
ولتسليط الضوء على هذه التساؤلات ، لابد لنا من الوقوف أمام مفهوم الإسكان كسياسة تنتهجها الدول ، انطلاقا من اعترافها بالسكن كحق أساسي لكل مواطن، فهو ضرورة حيوية وبيولوجية لا يمكن التخلي عنها، ومن الطبيعي أن المسكن هو حق من حقوق الإنسان الأساسية وقمة سلم الأولويات الضرورية له, باعتباره مرتبطاً بوجوده وديمومة حياته، والحصول على المسكن يعدّ فوزاً يضفي البهجة والسرور إلى حياة الرابح النفسي، كما أنه ضروري لتحقيق الاستقرار المجتمعي الذي يستطيع من خلاله أن يؤدي دوره المأمول في المجتمع، ويساعده على أداء واجباته تجاه وطنه وأسرته على أكمل وجه.
والمسكن هو الملاذ الآمن والذي يحقق طلب الاحتياج النفسي للمأوى بحيث يشعر المرء بالطمأنينة والخصوصية والانتماء، فهو لا يمثل مكاناً للسكن فقط ولكن للسكينة والعيش في رخاء وتنمية أيضاً، إنه المأوى الذي يؤدي إلى توفير بعض الاحتياجات الجسمية والاجتماعية والثقافية والنفسية، إنه حلم كل مواطن في بلده وعدم وجوده أو الحصول عليه يشكل قلقاً نفسياً لناحية النقص الذي يوجد هوة تتطلب ردماً لإعادة التوازن، ولهذا يعتبر المسكن من أهم المكونات الاستراتيجية الوطنية لأية دولة ولا يخفى على الجميع ما يمثله امتلاك المواطن للسكن من تعزيز الانتماء للوطن.
المواطن عامل بشري ثابت ومحرك أساسي في مختلف قطاعات التنمية, وطبيعته وفطرته تتطلب مأوى يركن إليه والسكن يمثل في حياته الاستقرار, لذا تكمن الأهمية الكبرى لقطاع السكن وحساسيته في تحسين الإطار المعيشي له أياً كان جنسه أو عمره ومهما اختلف مستواه وأصله الاجتماعي, فتأمين المسكن مطلب مشروع لأي مواطنة ومواطن، وهو ما ينبغي أن يتوفر في كل مجتمع، من أجل أن يكون المجتمع في حالة من التماسك والترابط ، لا في حالة احتقان وشعور بالضيم، فمسألة السكن قضية ضرورية ومهمة.
علماء الاجتماع يحذرون
وقد أشار علماء الاجتماع إلى دور أزمة السكن في الاحتقان الاجتماعي, فمشكلته من أحد العناصر التي لها دور رئيسي في الأزمات الاجتماعية ولا يمكن فصلها عن الجانب السياسي والأمني وعن مخططات التنمية الاجتماعية وعن أية عملية تنمية في أي مجال وعلى أيّ صعيد، وحلها سوف يكون مفتاحاً لكل المشكلات الأخرى فيما يتعلق بمستوى الدخل وغلاء المعيشة، وفرص العمل وغيرها.
إن أزمة السكن تؤثر على الجميع باختلاف أجناسهم وأعمارهم, وأثرت على المراهقين بشكل خاص ودفعهم إلى الانتقال العنيف من مرحلة الطفولة إلى سن الرشد، ومن مشاكل عدم توفر السكن أيضاً ارتفاع نسبة الفقر وارتفاع معدلات الجريمة والانحراف والفساد, وتفشي الأمراض النفسية وارتفاع نسبة الطلاق وجرائم السرقات.
السكن حق
وقد تم توثيق هذا الحق في مواثيق ودساتير محلية ودولية، ومن بين هذه المواثيق التصريح العالمي لحقوق الإنسان لعام (1948م)، والذي نص على حق الفرد والمواطن في الحصول على مسكن كما نصت على ذلك وثيقة العهد الدولية للحقوق المدنية والاقتصادية، واليمن صادقت على هذه الوثيقة.
قصور في الوعي
بسبب نقص الوعي ، يقلل البعض من أهمية قطاع السكن ودوره في مختلف النشاطات الاقتصادية، غير أنّه في الواقع العملي يعتبر بحق من القطاعات الحساسة التي تستدعي الاهتمام والعناية وذلك لكونه المحرك الرئيسي للاقتصاد الوطني، أنّه يمثل الدعامة الأساسية للسير الحسن لجميع القطاعات الأخرى ولو بطريقة غير مباشرة، كقطاع الصناعة، الزراعة، التشغيل، فهو بهذا المنظور يعتبر مقياسا لتطور وتقدم الأمم في مجالات مختلفة حيث بمقتضاه تسير باقي القطاعات في نسق منتظم وهادف.
لا يمكن نجاح أي عميلة تنمية في أي مجال وعلى أيّ صعيد ما لم تصاحبها سياسة رشيدة في مجال الإسكان والبناء والتعمير قصد ضمان استقرار المواطن الذي هو عامل بشري ثابت ومحرك أساسي في مختلف قطاعات التنمية كون طبيعته وفطرته تتطلب مأوى يركن إليه، من هنا تكمن الأهمية الكبرى لقطاع السكن وحساسيته في تحسين الإطار المعيشي للمواطن مهما اختلف مستواه وأصله الاجتماعي ومهما اختلفت الجهة التي ينتمي إليها.
اليمن حالة خاصة
يمكن اعتبار قطاع الإسكان في اليمن حالة خاصة مختلفة عن باقي دول العالم .
ومنذ قيام الجمهورية قبل خمسة عقود ، لم يحظ قطاع الإسكان بأدنى اهتمام من قبل السلطات والحكومات التي تعاقبت على الحكم منذ العام 1962م، وهو ما أدى إلى تفاقم المشكلة التي يتزايد حجمها يوماً بعد يوم، ويعتبر عجز الدولة عن توفير المسكن الملائم للمواطن، أو على الأقل تنظيم العلاقة بين الملاك والمستأجرين ، هذا العجز يعد انتهاكاً فاضحاً لحق مهم من حقوق المواطن الإنسان ، وهو حق لا يقل أهمية عن حق الإنسان في الحياة ، فمن لا سكن له لا حياة ولا كرامة له.
عجز السلطات في اليمن عجز مركب أو مزدوج ، يشمل عجزاً في توفير المساكن ، عجزاً في تقديم التسهيلات ، عجزاً في التخطيط والدراسات ، عجزاً في التشريعات .
كان يمكن لأسرة محمود أن تحصل على مسكنها الخاص دون أن تكلف الدولة ريالا واحدا، لقد فشلت الدولة في انتزاع حقوق آلاف الموظفين المشتركين في ” جمعية الحتارش السكنية ” التي تأسست في ثمانينات القرن الماضي ، الجمعية التي اختفت بأموال 6 آلاف مشترك من الموظفين يمثلون 17 وزارة ومؤسسة حكومية ، في أكبر عملية نصب شهدتها اليمن، حتى أوامر رئيس الجمهورية وأحكام القضاء لم تفلح أمام مجموعة منتفعين نافذين .
ساهمت أسرة محمود بنحو أربعين ألف ريال ما يعادل أربعة آلاف دولار حينها، ومثل آلاف المشاركين أنتظر محمود عقودا كي يتسلم بصيرة الأرضية ، لكنها ظلت ” في المشمش ” الدولة وقوانينها كانوا أيضا ” في المشمش “.
المحامي المنتظر
قبل أن نغادر من أمام منزل محمود ، عادت نوال بصحبة أخوها أمجد من المركز الامتحاني .. هاه طمنينا ، خاطبها والدها وهي تتخطى عتبة المنزل ، ردت والسرور باد على محياها : الحمد لله الإمتحان كان سهل .. يعني تسعين ؟!، أجابت : إن شاء الله .
أغلقت نوال الباب خلفها ، وتوقف أمجد إلى جانبنا: سألناه ، وأنت كيف؟! قال أنا الحمد لله امتحنت العام الماضي، والسنة هذه أنسق في الجامعة ..أيش من كلية ؟! أجاب شريعة وقانون ..وليش اخترت هذا التخصص ؟!
أجاب وهو يبتسم : من شان أشارع المؤجرين وأدافع عن حقوق المستأجرين .
دعونا له بالتوفيق ، وعدنا أدراجنا، وقد التزمنا عدم التصوير بناء على رغبة العائلة
تحديد مفهوم أزمة السكن:
* عند إنجلز: الأزمة السكنية هي تدهور الأوضاع السكنية للعمال نتيجة التدفق المفاجئ للسكان نحو المدن الكبرى، الارتفاع الكبير للكراء، وتكديس مستمر في كل بيت، لكنها بالنسبة لواقعنا الحالي ، هي استحالة العثور على مسكن.
* أمّا “كستلس” يرى أن أزمة السكن: هي قبل كل شيء أزمة في حد ذاتها أي نقص الرفاهية والتجهيزات والاكتظاظ، ورغم عدم صلاحية بعض المساكن القديمة غير الصحية إذن فقضية الإسكان ليست مجرد قضية توازن في العرض والطلب، ولكن هي قضية تفاوت ضروري في حاجيات السكن المحددة اجتماعيا وإنتاج السكن والأجهزة السكنية، وهي تحديد هيكلي لهذا التفاوت.
التعريف الإجرائي لأزمة السكن:
هي تقنية الاكتظاظ والازدحام في المسكن، حيث تنعدم فيه شروط الرفاهية والراحة مع صعوبة الحصول على مسكن آخر.
* لكن أزمة السكن في بلادنا هي: استحالة الحصول على مسكن.