أم محمد .. تبيع السنبوسة لإعالة أطفالها في الحديدة
لم تتوقف أم محمد ( 52 عاماً ) عن عملها في بيع الوجبات السريعة على قارعة الطريق في أحدى شوارع مدينة الحديدة رغم توقف معظم الأعمال بسبب الأحداث التي جرت في المدينة و المخاوف من تفشي جائحة كورونا ..
أم محمد ، سعت منذ وفاة زوجها أواخر العام الماضي على مضاعفة الجهود والقيام بأعمال شاقة بغية توفير لقمة العيش الحلال والأهتمام بأطفالها حتى لأتضطر لطلب المساعدة من أحد ..
تقف ( أم محمد ) بجسدها النحيل وإبتسامتها اللطيفة في اطراف شارع المطراق في مدينة الحديدة تصنع للمارة بعض الوجبات السريعة ( السنبوسة، والطعمية، والمخلوطة) مقابل مبالغ بسيطة .
فقدت العديد من الأسر بمدينة الحديدة مصدر رزقها بسبب توقف صرف المرتبات جراء الحرب مما دفع الكثير من النساء وبكل شجاعة الى الخروج الى ميدان العمل للبحث عن لقمة عيش لإعالة أبنائها ..
تروي (أم محمد) ل ” الحديدة نيوز “، طبيعة عملها قائلة : ” ابتدأنا حياتنا بطمأنينة وراحة بال مع زوجي ، استأجرنا دكانا” في منطقة التحرير بالحديدة، وافتتحنا بقالة، عملت مع زوجي في البقالة جنباً لجنب ، عشنا براحة وسعادة في ذلك الزمان ونحن نتقاسم العمل فيما بيننا “.
استمرت سعادتهم لفترة ليست بالطويلة، حتى طالهم بطش الأيام الذي لا يرحم أحداً، تقول ” أم محمد ” أصيب زوجي بجلطة جعلته طريح الفراش ، وصارت مسؤوليتي أكبر بكثير ، صرت أعمل في دكاننا المتواضع طوال اليوم لأوفر قوت عائلتي وعلاج زوجي، واربي طفلي الذي صار همي الأكبر وضاعف من همومي ، من هنا ابتدأت معاناة (أم محمد) المتتالية، وكل مأساة تكون أنكأ من سابقها.
تحملت (أم محمد) هموم الحياة ومشاقها بمفردها حتى لا تضطرها الحاجة في زمن الحرب لمد يد العون وطلب المساعدة من أحد ..
ومع مرور الأيام أصبحت بحاجة لشخص يعينها ويساعدها في العمل بالبقالة بعد تراكم التزاماتها ، وكان حينها استحالة توظيف شخص ما للعمل معها تماشياً مع عادات وتقاليد المدينة زاد من خيبتها، حتى عرض عليها أحد الأشخاص أن يجعل أخاة الأصغر أن يعمل معها مقابل راتب شهري.
عمل (عبدالله – اسم مستعار لابنها بالتبني )، مع أم محمد في دكانها منذ أن كان في الثالثة عشرة من عمره “عندما عرض بأن يشغل معي أخاه ففرحت فرحاً شديداً خاصة وأنه مازال صغير العمر، وبذلك سأسلم من أقاويل الناس وكلامهم، وكان عملياً ونشيطاً وأميناً، لدرجة أني أحببته كأنه ابني، وتبنيته، ولازال معي حتى هذه اللحظة”.
*في مواجهة مجتمع سقيم*
تعرضت (أم محمد) لمضايقات المجتمع وانتقادات أفراده المعارضين لفكرة خروج المرأة للعمل، ففي تلك الفترة كانت المرأة في بلادنا يعني انها تظل ربة البيت، وغير ذلك لا يحق لها الخروج للعمل ، حتى حقها في التعليم حرمت منه، لكن (أم محمد) استطاعت تجاوز تلك العقبات، وتفننت في مواجهة مجتمع بأكمله متجاهلة أذاهم، ومتخطية استهزائهم، وواصلت بدون يأس، وتحدت الصعاب من أجل ابنها وزوجها.
نقلت (أم محمد) بقالتها إلى شارع صنعاء، وبقيت تعمل فيها مع ابنها المتبني، وما هي إلا أيام قلائل حتى مات زوجها وخلف في قلبها فاجعة هزت أوصالها، تقول ودموعها المأسورة خلف قضبان عينيها قد تحررت منهمرة على خدها: “مات زوجي في وقت كنت بأمس الحاجة إليه، كنت بحاجة حتى لأنفاسه التي لم يتبقى منه سواها، تركني وحيدة في هذا العالم أواجه مجتمع سقيم يعيب على الأرملة العاملة، تركني لوصية لم أعلم بها إلا بعد حين”.
أيام أشد مرارة وقسوة، عبء صار أثقل من سابقه، عاشتها (أم محمد) دقائقها وثوانيها كأعوام، تحمل الهموم، وتصارع آلام الحياة، تنظر لطفلها وقلبها يتشظى وجعاً، وتمر الأيام ويتقدم لها أحد أصدقاء زوجها المقربين، طالبا” الزواج منها ..
تضيف أم محمد ل ” الحديدة نيوز “جاء أحد أصدقاء زوجي طالباً يدي، وكان زوجي قد أوصاه بأن يتزوجني إن مات، لم يكن بيدي حيلة سوى القبول، ونظرة المجتمع متزمتة، وأنا غريبة في بلد لا أهل لي فيه ولا ملاذ ولا مجير ..
“تكسير الأبواب كسر للقلوب”
مرت الأيام والسنين ، كبر طفلها (محمد) وصار فتى يافعاً، أصبح يساعد أمة في العمل بالبقالة، يستيقظ كل صباح لتلحقه أمه للعمل، يقتاتون من مردود دكانهم البسيط، يكدون كل يوم، إلى أن جاء يوم تكسرت فيه أبواب دكانهم لتنكسر معها قلوبهم، سقطوا بعدها في بحر من الديون، ولم تقم لهم عثرة حتى كتابة هذه القصة ..
تقول (أم محمد) بتنهيدة تخرج من وسط الضلوع: ” بعد وفاة زوجي، وزواجي مرة ثانية، بقيت في عملي بالبقالة مع إبني محمد، عبدالله، نعيش منه كلنا، لكننا تفاجئنا في أحد الايام بقيام مسلحين بأقتحام بقالتنا واخراج كل مافية الى الشارع خالي من اي حاجة غير أبواب مكسرة ، وأغلب البضائع مرمية على رصيف الشارع”.
لقد صُدم محمدُ،وعبدالله وأمهم أيما صدمة، صدمة أرجعتهم للخلف، قضت على كل أحلامهم، وأودت بمصدر رزقهم ليصبحوا في الحضيض، فأي ظلم يتوغل قلوب تلك البشر وأي حياة يعيشها هؤلاء على أقوات البسطاء؟؟
لم تكن (أم محمد) تدرك سبب كسر أبواب دكانهم، لكنها أدركت لاحقاً السبب؛ فالعمارة التي بها الدكان كانت محل خلاف بين صاحب العمارة وبين المشتري الجديد لها، وكانت(أم محمد) تنظر لمن سيكون حكم المحكمة، إلا أن مشتري العمارة تعجل قبل إصدار الحكم، وجاء بمسلحين وقاموا بتكسير الأبواب، ورمي البضاعة بالشارع.
” ضاع كل شيء أمانات الناس اللي كانت بالبقالة، وفواتير ديون التجار، واسطوانات الغاز، وعقد الإيجار، كل شيء انتهى ما بقي غير بعض المواد الغذائية.. وفوق كل ذا أجبروني على توقيع ورقة باستلام البضاعة، مالم لن يسلموني شيء منها”..
هكذا تقول(أم محمد) بحرقة وألم، فقد وقعَتْ على الورقة وهي لا تعلم بشيء عن بضاعتها، هل هي كاملة أم بها نقصان..لقد تدمرت كل أحلامهم، وانتهى مصدر العيش الذي كانوا يقتاتون منه.
ظلت(أم محمد) تبحث عن محل آخر لتنقل بضاعتها إليه، إلا أن الحظ السيء يلاحقها فلم تعثر على محل، حتى تلفت البضائع، لأن أغلبها مواد غذائية ومعلبات، وحين وجدت محلاً لم تجد تاجراً تستدين منه..
” تغلقت كل الأبواب بوجهها، وانتهت كل البضائع، ولما وجدوا دكان للإيجار رفض التجار أن يدينوها بسبب سوء الأوضاع في البلاد”.. ومع كل كلمة كانت تتهجاها (أم محمد) كانت الدموع تنساب من عينيها.
وها هي (أم محمد) تتحدث من بين الدخان الخانق، ذلك الدخان هو آخر فصول مأساتها، ففي ظل انعدام الغاز من فترة وأخرى لجأت لاستخدام الحطب لتصنع وجبات خفيفة للمارة، ذلك الوجه الذي جعدته المعاناة وكلماتها الموجوعة أفرغت الحياة طلقات مآسيها عليه، وألف غصة في قلب ( أم محمد ) والدموع تترقرق على خديها في تلك اللحظة، حل صمت رهيب قطعه عويل حفيدتها المعاقة، فقالت ( أم محمد ): حتى هذه الطفلة البريئة لم تسلم من وحشة الحياة وجورها، أوقفنا علاجها وقد كانت ستتحسن حالتها، لكن لا سامح الله الزمن.
لم يعد بيدها أي حيلة لتصنع شيء غير رفع أكف الدعاء لله لينقذها من هذه المعاناة، ثم تخاطب القلوب الرحيمة لمساعدتها أو مساعدة ابنها لعمل مشروع يعينهم على العيش بسلام ومواجهة عاصفة الحياة التي لم تستطيع هزمها.