شبكات التواصل الاجتماعي.. انتهاك لحقوق الإنسان وقمع لحرية الرأي والتعبير
نمت شركات التواصل الاجتماعي -مثل فيسبوك وتويتر- لتصبح شركات عملاقة توظّف عشرات الآلاف من العاملين وتقدم خدماتها لملايين العملاء حول العالم. وللبقاء قريبين من عملائهما والمسوّقين الذين يعتبرون وقودًا لأعمالهما، فتحت كلتا الشركتين فروعًا لهما في كافة قارات العالم تقريبًا. على سبيل المثال، توظّف شركة فيسبوك أكثر من 35,000 شخص موزعين على 87 مقراً لها في 35 دولة. بينما تعتبر شركة تويتر أصغر بقليل، حيث وصل عدد العاملين فيها حتى شهر أبريل 2019 إلى 4,100 موظف، يعملون في 33 فرعًا موزعين على 19 دولة.
وفي الوضع الطبيعي، تجذب شبكات المقرات هذه مزيدًا من الاستثمارات لتلك الشركات في كل دولة، كما تخلق فرصًا أكبر للعمل وتترك آثاراً اقتصادية وثقافية واجتماعية مختلفة.
من جهةٍ أخرى، تقود تلك الاستراتيجية الشركات لقوانين وممارسات مختلفة، بما في ذلك تلك التي تنتهك خصوصية المستخدمين أو تفرض قيودًا على حريات التعبير، أو تضع المعارضين تحت الرقابة وتسلب النشطاء حقهم في حرية الرأي والتعبير.
هذا التهديد الذي يواجهه المواطنون عادةً يزداد بشكلٍ ملحوظٍ في الدول التي تُعتبر حكوماتها دكتاتورية أو استبدادية أو شعبوية، أو في المناطق التي تمارس فيها السلطات ممارساتٍ تعسفيةٍ تجاه الأقليات أو النقاد والمعارضين، الأمر الذي شهد -وما يزال- تزايدًا مضطرداً خلال الفترة الماضية.
تقرير/ هاشم السريحي
الشرق الأوسط.. شبكات اجتماعية مراقبة
كشفت دراسة جديدة أعدتها مؤسسة الفكر ومقرها لندن، أن الموقع الجغرافي للشركات يؤثر بشكلٍ كبيرٍ على سياسات حقوق الإنسان تجاه عملائها. وقالت إمباكت الدولية لسياسات حقوق الإنسان إن شركتي فيسبوك وتويتر تُضطران إلى الالتزام بسياسات تفرضها حكومات في الشرق الأوسط عليهما مقابل السماح لهما بتقديم خدماتهما داخل حدود بلدانها، الأمر الذي يُهدد أمن وسلامة مستخدميهما بشكلٍ خطير.
على سبيل المثال، يجد مواطنو دول الخليج العربي والفلسطينيون على وجه الخصوص أنفسهم جزءًا من اتفاقياتٍ تبرمها الشركات متعددة الجنسيات مع حكوماتهم أو مع سلطات العدو الإسرائيلي، يترتب عليها تسهيل تلك الشركات ملاحقة النشطاء والمعارضين منهم، أو فرض قيود على حرياتهم في الرأي والتعبير.
مواقع التواصل.. وسائل للتعبير والقمع أيضاً
تلعب مواقع التواصل الاجتماعي دورًا مهمًّا من خلال إتاحة مساحة للتعبير عن الرأي بين الشعوب العربية، خاصة خلال الأحداث الساخنة في مسيرة انتفاضات الربيع العربي، غير أن الحكومات القمعية باتت تتحكم في هذه المواقع عبر التأثير في مكاتبها الإقليمية بالمنطقة.
وقد حذرت منظمة العفو الدولية، في تقرير جديد لها، من أن المراقبة التي تقوم بها شركتا فيسبوك وجوجل في كل مكان لمليارات الأشخاص إنما تشكل تهديداً ممنهجاً لحقوق الإنسان؛ بينما طالبت بحدوث تغيير جذري في صلب نموذج أعمال عمالقة التكنولوجيا.
ويوضح عمالقة المراقبة كيف أن نموذج العمل المستند إلى المراقبة من قبل فيسبوك وجوجل يتعارض بطبيعته مع الحق في الخصوصية، ويشكل تهديدًا لمجموعة من الحقوق الأخرى بما في ذلك حرية الرأي والتعبير، وحرية الفكر، والحق في المساواة وعدم التمييز.
وقال كومي نايدو، الأمين العام لمنظمة العفو الدولية: “تسيطر جوجل وفيسبوك على حياتنا الحديثة – فهي تحشد نفوذاً لا مثيل له على العالم الرقمي من خلال جمع البيانات الشخصية لمليارات الأشخاص وتحقيق المكاسب منها. إن سيطرتهما المشينة على حياتنا الرقمية تقوض جوهر الخصوصية، وهي واحدة من التحديات المحددة لحقوق الإنسان في عصرنا”.
ويقدم عمالقة التكنولوجيا مثل جوجل وفيسبوك الخدمات لمليارات الأشخاص دون فرض رسوم على المستخدمين. وبدلاً من ذلك، يدفع الأفراد مقابل الخدمات ببياناتهم الشخصية ويتم تعقبهم بشكل مستمر عبر الويب وفي العالم الملموس أيضاً، على سبيل المثال من خلال الأجهزة الموصولة.
ولم يكن هذا ما قد اشترك الناس من أجله في الإنترنت عند بدء تشغيل هذه المنصات. فقد اخترقت جوجل وفيسبوك خصوصياتنا بمرور الوقت. فأصبحنا محاصرين وعلينا أن نخضع لآلية المراقبة المنتشرة – حيث يتم اختراق بياناتنا بسهولة للتلاعب بنا والتأثير علينا – أو التخلي عن فوائد العالم الرقمي.
عنصرية “فيسبوك” في فلسطين
إن تعرض المحتوى الفلسطيني، عبر شبكة فيسبوك، للرقابة يلفت النظر إلى الخلفية السياسية التي تنطلق منها إدارة فيسبوك في تكييف قراراتها بحذف ذلك المحتوى أو حظر النشر من الحساب المعني؛ الأمر الذي يجعل المنظمات المهتمة بحقوق الإنسان وحرية التعبير تنتقد ممارسات شبكة فيسبوك وتضعها أمام مسؤولية ضرورة عدم انتهاك حرية التعبير طالما أنها ارتضت تمكين مستخدميها من النشر، الأمر الذي يجعلها أكبر فضاء رقمي لممارسة التواصل الإعلامي.
وقد انتقدت مؤسسة سكاي لاين الدولية (ومقرها في ستوكهولم) شبكة فيسبوك لأنها قامت بحذف بعض المحتوى الفلسطيني وحظرت مجموعة من الصفحات، وقامت بتهديد بعض المواقع الإعلامية الفلسطينية عبر الشبكة بحذف المحتوى والمنع من النشر، من بينها صفحة “قدس نيوز” الإخبارية و”بوابة الهدف” و”جبهة العمل الطلابي التقدمية”.
وقد ذكرت إمباكت الدولية لسياسات حقوق الإنسان أن دراسات عدة وثقت نحو 675,000 منشورًا عنصريًا أو تحريضيًا ضد العرب على شبكات التواصل الاجتماعي خلال عام 2016 وحده، أي بمعدل منشور واحد كل 46 ثانية، في الوقت الذي لم تواجه فيه الغالبية العظمى من ناشريها أية قيودٍ على النشر.
وقالت “مارثا أوتش” الباحثة في إمباكت الدولية لسياسات حقوق الإنسان إن “الفلسطينيين يواجهون اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى قيودًا -لا على الأرض وحسب- بل بشكل افتراضي كذلك، تُلزمهم على الصمت عن الحديث حول الانتهاكات التي يتعرضون لها حتى على مواقع التواصل الاجتماعي”.
في عام 2017، ذكر تقرير لوزارة عدل الكيان الإسرائيلي أن وحدتها الإلكترونية وثقت 2241 تدوينة من “الكراهية” على الإنترنت التي تَشارك الفلسطينيون في نشرها، ونجحت الوزارة في حظر 70% منها، كما أفاد مركز “حملة – المركز العربي لتطوير الإعلام الاجتماعي” بأن سلطات العدو الإسرائيلي اعتقلت حوالي 350 فلسطينيًّا في الضفة الغربية بتهمة “التحريض” بسبب كتاباتهم على وسائل التواصل الاجتماعي، ليرتفع العدد بذلك إلى 300 في عام 2017.
وفي المقابل، «يشير النقاد إلى أن التهديدات العنيفة وغيرها من المضايقات التي يكتبها اليهود على وسائل التواصل الاجتماعي، نادرًا ما تتعرض للفحص الدقيق من قبل فيسبوك. وقام مركز حملة «بتوثيق زيادة مذهلة في جرائم العنصرية وخطاب الكراهية في وسائل التواصل الاجتماعي الإسرائيلية، بواقع منشور تحريضي ضد الفلسطينيين كل 66 ثانية».
ورصد المركز 474.250 منشورًا أهان أو طالب بالعنف ضد الفلسطينيين، ومن بين المنشورات التي تتحدث عن العرب، كان 10 % منهم يحضون على الكراهية، أو يدعون للعنف، مثل ارتكاب جرائم الاغتصاب والقتل ضدهم.
السعودية والإمارات.. قمع واغتيالات
في الواقع الرقمي اليوم، يجري التضييق على حرية الرأي والتعبير بشكل متزايد عبر شركات التواصل الاجتماعي، التي تعمل على إيجاد حالة من التوازن بين التواصل المفتوح ومراقبة خطاب الكراهية، ولكن بدون وجود مدونة قواعد سلوك تضمن حماية حقوق الإنسان، فإن هذه الشركات الخاصة غالبًا ما تخضع لضغوط الحكومات، وتسمح باستخدام منصاتها أدوات للقمع.
وفي دول الشرق الأوسط أمثلة عديدة على الأثر السلبي المترتب على علاقة شركات التواصل الاجتماعي بعلاقات الحكومات مع مواطنيها، على سبيل المثال، قبل يومٍ واحدٍ من افتتاح فرع لشركة “تويتر” في الخليج العربي، اعتُقل الأكاديمي والخبير الاقتصادي الإماراتي “ناصر بن غيث” في الإمارات العربية المتحدة بسبب تغريداته الناقدة للنظام في مصر، والتي تعد حليفًا للإمارات العربية المتحدة، لفشل السلطات المصرية في تحديد المسؤولين عن حادثة رابعة العدوية عام 2013 في القاهرة. اعتقل “بن غيث” في أبو ظبي وتم نقله بعدها إلى مكانٍ مجهول حيث حُرِمَ من حقه في التواصل مع عائلته ومحاميه، كما حُرِمَ من العلاج الطبي لحوالي ثمانية أشهر إلى أن عُقِدت أول جلسة استماع، وحُكِمَ عليه بالسجن لمدة عشر سنوات وما يزال حتى اليوم يقضي مدة محكوميته.
وقد أشارت الدراسة التي أعدتها إمباكت الدولية لسياسات حقوق الإنسان أن شركة “تويتر” التي تلاقي رواجًا كبيرًا بين المستخدمين في دول الخليج، ارتبطت بشكلٍ أو بآخر بممارساتٍ قمعيةٍ مارستها حكومات بعض الدول تجاه النشطاء والمعارضين.
السعودية كذلك تعد دولةً محنكةً في مثل هذا المجال، حتى دون التعاون مع شركة تويتر. على سبيل المثال، قالت “منى السواح”، الباحثة في مشروع الدعاية الحاسوبية في جامعة أكسفورد، لقناة الجزيرة “أن تويتر بات يُستخدم للحد من نشاط المعارضة، واستهداف كل من يواجه الحكومة وأصبح وسيلةً تستخدم بالإكراه”. وبالرغم من أن تلك الممارسات تحدث في معظم دول المنطقة، إلا أن القيود الخانقة التي تفرضها الحكومات على مواقع التواصل الاجتماعي، بما في ذلك موقع تويتر، تظهر جليةً بشكلٍ أكبر في المملكة العربية السعودية، والتي يجعلها مستخدموها الذين وصل عددهم إلى نحو 10 ملايين مستخدم أكبر سوقٍ في الشرق الأوسط.
تقول “جيليان يورك” مديرة حرية التعبير الدولية في مؤسسة الحد الإلكتروني: “إنه لمن المدهش حقًا أنه كلما أردت أن أقول أي شيء بخصوص المملكة العربية السعودية على منصة تويتر، أجد مئات من الروبوتات تهاجمني في كل مرة.”
مصالح اقتصادية
تجد فيسبوك -أكبر شبكات التواصل الاجتماعي- نفسها في مأزق الموازنة بين مصالحها التجارية التي تقتضي نشر المحتوى الذي يحظى بأعلى نسبة مشاهدة وتداول ليجذب الإعلانات التجارية التي تمثل الدخل الرئيس للشبكة، ومصالحها السياسية التي تقتضي إرضاء الحكومات القطرية من خلال رقابة المحتوى غير المرغوب فيه من خلال تطويع معايير المجتمع لتنطبق عليه وتضطر لتعيين آلاف المراقبين الذين يعملون على مدار الساعة، أي إنها أصبحت بين مطرقة كونها فضاء رحبا للاستخدام التواصلي العام ومنصة لترويج الإعلانات التجارية.
لقد حققت شركة فيسبوك ربحا تجاوز 22مليار دولار عام 2018، خلال مجتمع تواصلي يشكل أكثر من خمس سكان العالم الذين ينشرون مليارات المداخلات يوميا، تضطر لمراقبتهم من خلال توظيف حوالي 15 ألف مراقب ينظرون في محتوى تم تقديمه عبر 100 لغة. فكيف لها أن تجمع بين التوسع في استقطاب مزيد من المستخدمين. وقد تلجأ فيسبوك إلى حذف المحتوى الذي يضر بمصالحها الاقتصادية من حيث الإعلانات أو الخضوع لضغوط من أنظمة حكم قمعية ترى أن المحتوى المنشور عبر فيس بوك ذو تبعات سياسية على أجندتها السياسية.
وثمة دليل واضح على خضوع فيسبوك لضغوط تطبيق الرقابة على المحتوى لأسباب سياسية-اقتصادية؛ إذ كشفت صحيفة “نيويورك تايمز” في نوفمبر 2016 أن فيسبوك طورت بكيفية سرية برمجية تعمل على حجب محتوى مخصوص من الظهور ضمن حيز جغرافي معلوم إرضاء لمعايير الرقابة التي تفرضها السلطات الصينية. وهدف هذا التطوير لمساعدة شبكة فيسبوك على العودة إلى السوق الصينية بعد أن تم طردها منها قبل سبع سنوات أثناء اضطرابات أقلية الإيغور الصينية التي استخدمت فيسبوك لنشر المعلومات الخاصة بقمع الاحتجاجات.
دعوات للتوازن
دعت إمباكت الشركات متعددة الجنسيات مثل: فيسبوك وتويتر للالتزام بمدونة لقواعد السلوك التي تثني عن الكره والعنف عند قمع حرية التعبير خصوصًا مع المعارضين. وبالمثل، فقد دعت إلى ضغط المواطنين والهيئات الدولية على الحكومات لإجبارها على احترام خصوصية الأفراد على مواقع التواصل الاجتماعي.
ونظرًا إلى أن هذا سيأخذ وقتًا كبيرًا في التنفيذ والتحقيق، فقد دعت إمباكت الدولية هذه الشركات لإنشاء مقراتها ومكاتبها الإقليمية في دولٍ تحترم معايير حقوق الإنسان، وأن تمارس أشكالًا من الضغط، مثل مقاطعة بعض الحكومات التي تفرض قيودًا على حريات الرأي والتعبير، وتلاحق النشطاء والمعارضين وترتكب انتهاكاتٍ تُمارسها بشكلٍ ممنهجٍ ضد مواطنيها.
ومؤخرًا اتخذت فيسبوك وتويتر خطوات في الاتجاه الصحيح، ففي يوم الانتخابات الإسرائيلية، حظر فيسبوك برنامج دردشة من حساب حزب الليكود اليميني بزعامة نتنياهو؛ لانتهاكه القواعد الانتخابية، وبالمثل أوقف تويتر حساب المستشار السعودي السابق سعود القحطاني قرابة عام، بعد إقالته بسبب دوره المشتبه به في جريمة اغتيال الصحفي جمال خاشقجي، وأفاد موقع تويتر أيضًا بأنه حظر 271 حسابًا دعائيًّا تابعًا لأجهزة الإعلام الحكومية في السعودية، بالإضافة إلى حسابات أخرى في الإمارات ومصر، ذات أنشطة مشبوهة.
ويجب على الحكومات أن تسن قوانين لضمان منع الشركات، بما فيها جوجل وفيسبوك، من الوصول إلى خدماتها بشرط “موافقة” الأفراد على جمع أو معالجة أو تبادل بياناتهم الشخصية للتسويق أو الإعلان. وتتحمل الشركات، بما فيها جوجل وفيسبوك، مسؤولية احترام حقوق الإنسان، أينما وكيفما تعمل تلك الشركات.