الوكالة الأمريكية للتنمية.. العدو المتلبس قبعة المساعدات الإنسانية
العلم الأميركي الذي تظلّله عبارة «تقدمة الشعب الأميركي» والذي تحركه وكالة التنمية الأميركية على أن يكون على أكياس الطحين وعبوات الزيت وصناديق الأدوية التي تقدمها في مختلف دول العالم، بات بوابة عبور للسطو والسيطرة على العالم ، وهو في نفس الوقت الذراع الأهم لأمريكا التي تستخدم القوة الناعمة في سطوها وسيطرتها ونهبها وحروبها العدوانية التي تشنها على مختلف دول العالم ، وعبر الوكالة الأمريكية للتنمية أوصلت أمريكا الأسلحة والعتاد إلى داعش والقاعدة ، وخلقت مجموعات القتل والارهاب التي فتكت بدول عربية واسلامية عديدة ، ومن خلال الوكالة نفذت أمريكا انقلابات سياسية في بلدان عدة ، وقد كشفت صور الأسلحة التي عرضتها القوات المسلحة في بلادنا والمغطاة بشعار الوكالة التي تدعي أنها تعمل في اليمن وتشارك في الاستجابة الانسانية الطارئة ، حقيقة الدور المنوط بالوكالة التي تعد الذراع الأهم في السياسية الخارجية الأمريكية التي تحقق من خلالها جملة من الأهداف السياسية والعسكرية والاقتصادية.
في العدوان على اليمن قامت الوكالة الأمريكية باختراق المناطق وتقديم المعلومات والاحداثيات ، وادخال الاسلحة إلى المناطق التي كانت تمثل جيوبا محاصرة يصعب على العدوان ومرتزقته الوصول إليها ، ومنذ اربعينيات القرن الماضي عملت على تدمير الزراعة والقطاعات السمكية والانتاجية وابرمت اتفاقيات مع وزارات وجهات حكومية ، تمكنت من خلالها تطبيق سياسة الافقار والتدمير الممنهج للمقومات الاقتصادية وعوامل التنمية والنهوض.
منذ نشأتها في أواخر خمسينيات القرن الماضي، عملت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية على خدمة السياسات الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية والتي تهدف إلى السيطرة المطلقة على العالم بأسلوبٍ جديد، ظاهره فيه البناء والإعمار والمساعدة وباطنه حربٌ لا يرى لها لهبٌ ولا تترك رماداً.
الثورة / عبد القادر عثمان
تبدأ القصة بعد تولي الرئيس الأمريكي هاري ترومان (1884-1972م) الرئاسة الأمريكية لفترة ثانية (1949م)، حين حدد مرحلة جديدة من السياسة الخارجية لأمريكا في أربع نقاط أساسية، وذلك في خطاب ألقاه بتاريخ 20 يناير 1949م، وقد تضمنت النقطة الأولى “الاستمرار في دعم هيئة الأمم المتحدة وزيادة فاعليتها وتأثيرها في السياسة العالمية”، بينما أكدت النقطة الثانية “مواصلة برامج تحسين الاقتصاد العالمي عن طريق دعم الاقتصاد الأوروبي وإزالة العوائق التي تحد من التجارة العالمية”، وتضمنت النقطة الثالثة “دعم الولايات المتحدة لحرية الشعوب وحمايتها من مخاطر الاعتداءات وتقديم الخبرات والوسائل العسكرية اللازمة”، أما النقطة الرابعة فلفتت إلى أفكار و وسائل جديدة كان لها الأثر بعد ذلك في زيادة النفوذ والتدخل الأمريكي في دول العالم المختلفة من خلال برامج المساعدات الغذائية والصحية ومشاريع البنى التحتية.
كان الهدف في بادئ الأمر يقتصر على تأمين الإمبريالية الغربية وزيادة نفوذها لمواجهة المد السوفيتي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، منتصف أربعينيات القرن الماضي، التي خرجت منها الولايات المتحدة منتصرة، على عكس بقية الأطراف التي هزمت أو أنهكتها الحرب اقتصادياً وعسكرياً واجتماعياً وسياسياً، وبالتزامن مع بدء مرحلة جديدة من الصراع والمواجهة بين المعسكرين، الشرقي والغربي، في ما عرفت آنذاك بالحرب الباردة، لكن النزعة الأمريكية تطوّرت لاحقاً وأصبحت الأخيرة تتطلع إلى السيطرة المطلقة على العالم وفرض الهيمنة التي ستتيح لها تسخير شعوب العالم لخدمة مصالحها وتحقيق المزيد من أهداف التوسع والاستعمار بكافة وسائله.
تناقضات الموقف الأمريكي
في إطار الخطة الأمريكية اعتمدت البيت الأبيض على الأساليب المخابراتية الأمنية بغية إرغام القوى الأخرى على السير في الطريق المرسوم من قبلها، لكنها أيضا استخدمت العنف مع كثير من القوى التي وقفت في طريقها، كما اغتالت رموز النهضة والتنمية في كل بلد ناهض، وساهمت في إثارة النعرات والصراعات العرقية والدينية والمذهبية والطائفية، وعلى الجانب الآخر نصّبت نفسها حارساً للإنسانية ومدافعاً عن الحقوق والحريات وإرادات الشعوب، ليس هكذا فحسب، بل عملت – من خلال منظماتها العاملة في كثير من الدول – على تغذية الأزمات وتجنيد المرتزقة تحت شعارات القيادات المجتمعية والشبابية وحكومات الظل وما إلى ذلك.
تعيدنا التظاهرات والحراك الجماهيري الكبير في الولايات المتحدة، والتي نشبت على إثر مقتل المواطن الأمريكي من أصول أفريقية “جورج فلويد” على يد شرطي أبيض قبل أشهر، إلى الوقوف على حقيقة النظام الأمريكي الذي ظل يلوح بشعار دعم إرادة الشعوب وحرياتها من أجل تحقيق مصالحه في البلدان الأخرى، لكنه هب إلى قمعها بأساليب أكثر وحشية ودموية مما فعلته بعض أنظمة الشعوب بإيعاز من القيادة الأمريكية، وهذا يكشف أن تلك المنظمات التي تكرس جهودها في البلدان النامية وتسخّر لها مليارات الدولارات إنما وجدت لخدمة السياسة الأمريكية، وتدمير الدول التي تحاول بناء اقتصاد قوي بعيد عنها.
في منتصف أربعينيات القرن الماضي، شعرت الولايات المتحدة بأنها على بعد مسافة بسيطة من الهزيمة أمام اليابان، لكنها لم تفكر كثيراً حتى باشرت بإلقاء القنبلتين النوويتين على اليابان، ما أسفر عن مقتل ما يصل إلى 140 ألف ياباني في مدينة هيروشيما، و80 ألفاً آخرين في مدينة ناجازاكي، وعلى إثر ذلك انتصرت، ثم خرجت من الحرب متربعة على عرش السيطرة الغربية وازداد ذلك بعد تفكك السوفييت، فبادرت إلى إنشاء صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، وأصبح دولارها العملة العالمية الأولى، وسيطرت على الاقتصاد العالمي، وأنشأت الأمم المتحدة مع الحلفاء، وأصبحت المنظمة أداة لتنفيذ السياسات الأمريكية بغطاء قانوني دولي، ثم عادت لتجنيد وسائل الإعلام لتجميل انتهاكاتها الشنيعة وتبريرها، ولتكون أداة لدعم الانقلابات العسكرية في الوقت الذي أسست فيه الجيوش المرتزقة لإسقاط الحكومات المعارضة.
ضغط وابتزاز
بعد إنشاء الوكالة الأمريكية للتنمية “يو أس إيد”، بادرت أمريكا لفتح مكتب للوكالة في اليمن، كان ذلك في عهد الإمام أحمد بن يحيى حميد الدين، وبالتحديد عام 1958م، وسمي حينها بـ “النقطة الرابعة” في تعز، وقد تولت تنفيذ عدد من المشاريع في مجال المياه والطرقات والصحة بالإضافة إلى تقديم المساعدات الغذائية، “ومن أهم المشاريع التي نفذتها النقطة الرابعة مشروع مياه تعز والذي لا يزال الناس من كبار السن في تعز يتذكرونه باسم مياه كندي، وكذا مشروع طريق تعز – المخا”، كما جاء في تقرير للكاتب “عبّاس السيّد” (مدير التحرير حالياً) في صحيفة “الثورة” بتاريخ 24 سبتمبر من العام 2012م.
لكن عمل المنظمة في اليمن مر بمراحل انقطاع عديدة استخدمتها الإدارة الأمريكية لابتزاز النظام أو كردة فعل تجاه عمل يخالف التوجهات المرسومة للأنظمة التابعة لها، والتي حكمت اليمن خلال الأربعة عقود الماضية، فعلى سبيل المثال عندما صوّت مندوب اليمن في الأمم المتحدة ضد تشكيل ائتلاف تقوده الولايات المتحدة لاستخدام القوة ضد العراق عام 1990م، قام مندوب الولايات المتحدة “توماس بيكيرينغ” ومشى حتى مقعد المندوب اليمني وأعلمه أن تلك كانت أغلى “لا تصويت”، وترتب على الرفض اليمني توقف التمويل الذي تقدمه الوكالة لليمن، ولم تستأنف عملها حتى العام 2003م، أي بعد ظهور حركة وطنية جديدة تصرخ بالموت لأمريكا وتنادي بتفعيل المقاومة في وجه الغطرسة الأمريكية، انطلقت في شمال اليمن، بقيادة السيد حسين بدر الدين الحوثي، فعادت الوكالة من جديد لممارسة أعمالها ودعمها الظاهري لليمن.
ومنذ ذلك الحين عملت الوكالة على إبرام اتفاقيات تعاون مع وزارات سيادية كالداخلية وأخرى ذات أهمية اقتصادية كبيرة، كوزارة المالية والزراعة والصناعة والتعليم العالي، وهذا يعيدنا إلى سيناريوهات خبيثة مارستها الوكالة في كافة البلدان التي عملت فيها، بيد أن تلك الدول كشفت ألاعيب وقامت بطردها بينما التقف اليمن الطعم، على الرغم من أن وزير الخارجية الأميركي الأسبق “جورج شولتز” (1982–1989م)، يصف برنامج المعونات الأميركية في مقدمة التقرير الخاص للخارجية الأميركية عام 1983م، على أنه “أداة أساسية من أدوات السياسة الخارجية، يرتبط ارتباطاً مباشراً بأمن أميركا القومي وازدهارهاالاقتصادي”.
النقطة الرابعة!
مؤخراً، أعلنت القوات المسلحة اليمنية على لسان ناطقها الرسمي، العميد يحيى سريع، ما أسمته “كشف الأدوار المشبوهة لـ “يو أس إيد””. قال العميد سريع إن القوات اليمنية “عثرت على مجموعة من الأسلحة من بينها قذائف مدفع هاوزر عيار 105 وقذائف مدفعية عيار 57، بحوزة مرتزقة تحالف العدوان في جبهة البيضاء”، كان ذلك بعد عملية عسكرية واسعة أعقبت الشغب الذي تصدره القيادي المؤتمري المرتزق ياسر العواضي، وانتهت بالسيطرة على مناطق واسعة في قانية والعبدية في مارب والبيضاء، حيث لفت سريع إلى أن “الولايات المتحدة الأمريكية لم تكتف بدعمها العسكري واللوجستي والاستخباراتي لتحالف العدوان في حربه وعدوانه على اليمن، بل جعلت منظمات تدّعي أنها تعمل من أجل التنمية وتقديم المساعدات الإنسانية لتستخدم التمويلات الممنوحة لها في تنفيذ أنشطة عسكرية كالوكالة الأمريكية للتنمية الدولية”، حسبما جاء في الإيجاز الصحفي، الذي أضاف أن “القوات اليمنية عثرت ضمن الغنائم أيضاً على كميات مختلفة من الأسلحة عليها شعار الوكالة في مناطق وجبهات أخرى”.
في الحقيقة ليست هذه هي المرة الأولى التي تمارس فيها الوكالة الأمريكية دوراً عسكرياً في اليمن، فبالعودة إلى تاريخ ثورة سبتمبر 1962م، نجد أن “النقطة الرابعة” – فرع الوكالة في اليمن – شهدت تشكيل واحدة من أهم الخلايا السرية للحركة العمالية في اليمن وذلك في إطار القطاع الإداري لمشروع الطرقات التابع لها، لكن حركة القوميين العرب كانت قد اخترقت النقطة الرابعة وأسفر ذلك عن ارتباط وثيق بين الحركة والعمال، كما جاء في “ورقة في ندوة وثائق الثورة ـ تعز ـ الجزء الخامس” لسعيد الجناحي.
ثم بعد قيام النظام الجمهوري تحولت النقطة إلى وكر خطير للتآمر على الثورة بغية استغلال الصراع مع الملكيين وليس حباً في طرف دون آخر، واستغلت الامتيازات الكثيرة الممنوحة لها والأسلحة والأجهزة التي كانت تدخلها إلى البلاد سراً، بعد أن تأكد قيامها بالتجسس والاتصال بالطرف الآخر، فخرجت مظاهرة حاشدة في تعز تندد بالأمريكيين وتطالب بإغلاق النقطة الرابعة، وفق ما أورده الدكتور محمد علي الشهاري في كتابه “نظرة في قضايا الثورة اليمنية”، وفي مطلع ديسمبر 1966م اعتقلت السلطات اليمنية عدداً من موظفي النقطة بتهمة التآمر وجمع المعلومات وتجنيد الجواسيس ضد حكومة الثورة وطلبت منها تسليم المشاريع إلى المسؤولين أو مغادرة البلاد كما قطعت عنها أجهزة اللاسلكي التي كانت تمتلكها وتمكنها من الاتصال بعملائها داخل وخارج البلاد.
وفي منتصف أبريل 1967م، ألقت أجهزة الأمن في منطقة الراهدة القبض على الموظف الأمريكي “ريتشارد بيجاليف” والذي كان يعمل في النقطة الرابعة بينما كان قادماً من عدن، وعثر في سيارته على ثلاث بنادق و144 طلقة وبندقية خرطوشة للصيد وآلة تصوير، وفي 25 أبريل 67م، ألقت الأجهزة الأمنية القبض على أمريكيين يعملان في النقطة الرابعة يدعيان ”ستيف ليابس” و ”هارولد هاتمان” كانا قد أطلقا في نفس اليوم أربع قذائف بازوكا على مخزن للذخيرة في مدينة تعز وعلى مقر القيادة العربية والكلية الحربية وقد كان ذلك سيؤدي إلى نسف المدينة بأكملها، حسب بيان حكومي يمني، وقتذاك، وعلى إثر ذلك أنهت الحكومة العمل بالاتفاقية المبرمة بين الوكالة وحكومة الإمام وجميع الاتفاقيات والملاحق المتفرعة عنها.
أدوار عالمية مشبوهة
ومنذ تأسيسها عملت الـ “يو أس إيد” كذراع للاستخبارات المركزية الأميركية، كما كشف عن ذلك الكاتب الأميركي والضابط السابق في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إه) “فيليب آجي”، الذي قال إنها تتبع ثلاثة أشكال لاختراق منظمات المجتمع المحلي في بلدان العالم، يتمثل الأول منها في التجنيد الاستخباراتي لعدد من الرموز السياسية للبلد المستهدف، وتمويلهم لاصطناع واجهات منظمات مجتمع مدني ترفع شعارات التغيير السياسي والدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان وحماية الأقليات الدينية والعرقية، وتمكين المرأة، والشفافية وغير ذلك، بوحي من الثقافة الأمريكية، والتسويق لها، بينما يركز الشكل الثاني على دعم وتمويل منظمات قائمة بالفعل، والتأثير عليها لاتخاذ مواقف تخدم السياسات الأميركية وتتماشى معها، أما الشكل الثالث، فيتضمن دعماً معنوياً للمنظمات التي ترفع شعارات حقوق الإنسان في بلدان العالم، عن طريق إقامة مؤتمرات دولية وإشراكها فيها، وتوظيف القائمين على تلك المنظمات كمستشارين وأكاديميين في مؤسسات أميركية ودولية، بهدف إعطائهم مواقع مؤثرة في الرأي العام ببلدانهم، وتوجيههم بشكل غير مباشر في خدمة المصالح الأميركية.
من بين الدول التي عملت الوكالة ضدها كانت فنزويلا، حيث عملت مع وكالة المخابرات المركزية ووزارة الدفاع الأمريكية والصندوق الوطني للديمقراطية والمافيا الفنزويلية في ميامي على الإطاحة بالرئيس الفنزويلي “هوغو تشافيز”، الذي كان شديد اللهجة ضد مشروع التوسع الأمريكي، وقد كانت “يداً بيد” (منظمة فنزويلية) المنفذ الرئيسي للمشروع، حيث نظمت في مارس 2003م عريضة الاستفتاء الاستشارية التي طالبت باستقالة تشافيز، وكانت وراء عريضة ديسمبر 2003م للاستفتاء على إلغاء الرئاسة، ووراء استفتاء 15 أغسطس 2004م على إلغاء الرئاسة والكثير من المشاريع التي تمس الأمن القومي للبلد كتدريب العسكريين الفنزويليين، حسبما أورده الفصل الخامس من كتاب “تحوُّل فنزولا إلى اشتراكية القرن الحادي والعشرين” – تأليف “غريغوري وِلْبيرت” وترجمة “بسام أبو غزالة”.
وفي العام 2012م، كشفت السلطات الروسية الدور المشبوه الذي لعبته الوكالة الأميركية للتنمية، باستخدام أموال المساعدات والتنمية في محاولة للتأثير على العملية السياسية في روسيا بما في ذلك الانتخابات على مختلف المستويات، ومؤسسات المجتمع المدني، وهو ما دفع السلطات إلى منع أنشطة الوكالة في روسيا اعتبارًا من الأول من أكتوبر في العام ذاته.
وفي كوبا أمريكا، أنشأت الـ “يو أس إيد” منتصف العقد الأول من القرن الجاري، خلايا سرية من أجل تنشيط ودعم المعارضة فيها لقلب نظام الحكم، وقد استقطبت عناصر من خارج كوبا تحت غطاء برامج مدنية متنوعة، مثل ورش عمل عن الوقاية من مرض نقص المناعة، وحول حقوق الإنسان، بالإضافة إلى توقيع عقود مع عملاء داخل كوبا، من بينهم “ألان غروس” الذي اعتقل في ديسمبر عام 2009م، وادّعى مع موظفي الحكومة الأمريكية أنه كان يعمل على إيصال خدمة الإنترنت للطائفة اليهودية هناك، بيد أن رئيسة الطائفة اليهودية “أديلا دوورين” أنكرت معرفتها بغروس وقالت إن منظمات دولية معروفة وفّرت لهم الاتصال بالإنترنت بطريقة قانونية، أما غروس فقد وجهت له تهمة بالتجسس واستيراد معدات اتصالات (ساتلايت) غير مسموح بها (وتعرف بـ BGAN) لصالح المنشقين الكوبيين، وعلى إثر تلك الفضيحة دعت دول حلف الألبا أعضاءها إلى طرد بعثات الوكالة من دولها.
أما في بوليفيا، فقد طرد اتحاد مزارعي الكوكا عام 2008م، 100 موظفاً ومقاولاً من موظفي الوكالة العاملين في مقاطعة تشاباري، على خلفية مشاريع كانت تود الوكالة تنفيذها وتهدف للقضاء على الكوكا، ودعم المزارعين على زراعة محاصيل أخرى بشرط التخلي عن كل ما يملكونه من نبات الكوكا، وذلك حسبما أفادت به وكالة الأنديز الإخبارية.
حكومات ظل وشبكات مجتمع مدني
عربياً، عملت الوكالة الأميركية، على اجتذاب منظمات المجتمع المحلي وأنشأت واجهات لها، تحولت لاحقاً إلى حكومات ظل، تحاول التأثير والسيطرة على برامج وخطط التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلدان، وهو ما فضحته المديرة السابقة لبرامج الحملات الانتخابية بالمعهد الجمهوري الدولي، في مصر، دولت عيسى، التي قدمت استقالتها من إدارة المعهد، بحجة أنها اكتشفت أن التمويلات، التي يتلقاها المعهد من الخارج، هدفها تدريب بعض الأحزاب التي أسسها نظام مبارك، لتنفيذ مُخطط إفساد الحياة السياسية في مصر والانقلاب على ثورة 25 يناير 2011، بسقف زمني يصل إلى عام 2015م، وهو ما حصل بالفعل.
بينما استهدفت تونس من خلال إقامة العديد من الأنشطة المشبوهة، أكثرها خطورة برنامج “شبكات المجتمع المدني الإقليمية”، لإنشاء أكبر قاعدة بيانات حول المجتمع التونسي، للارتداد عن منجزات الثورة بتسويق النموذج الأميركي للديمقراطية، وإعادة ربط تونس بالقرار الأميركي.
أما في العراق فقد دخلت الـ “يو أس إيد” عام 2003م، على ظهر دبابات الاحتلال الأمريكي واستمرت تعمل مع منظمات محلية وأخرى صهيونية لنهب ثروات العراق، ولم توقع اتفاقية العمل مع الحكومة العراقية إلا في العام 2012م، أي بعد تلميح القوات الغازية بالانسحاب، وقد تعاونت الوكالة مع “معهد المجتمع المفتوح” التابع للمتآمر للصهيونية الذي تواجد في العراق حينها، وقد كانت هيئة الرقابة والمشورة الدولية التي أوكل إليها تدقيق مبيعات العراق من النفط كانت مبادرة من “معهد المجتمع المفتوح”، إضافة إلى تمويل مجموعة واسعة من الأنشطة في العراق، بعد احتلاله، تنادي بتقسيمه إلى دويلات طائفية وأثنية، وتشجع النزعات الانفصالية، مثلما عملت في سوريا بغية تفتيتها، قبل نشوء الأزمة فيها بسنوات، وحين فشلت أعلنت عليها الحرب المستمرة حتى اليوم، علاوة على دعم وإنشاء داعش والقاعدة وغيرها من الجماعات الإرهابية، كما جاء في مقال للباحث العراقي، سعد السعيدي، بعنوان “نطالب بطرد وكالة دعم الإرهاب (يو أس إيد) من العراق”.
وفي فلسطين المحتلة، كانت تشترط الوكالة على المتقدمين للحصول على معونات مادية التعهد بعدم اتخاذ مواقف سياسية معادية للاحتلال الصهيوني، أو تقديم عون لأفراد أو هيئات فلسطينية مقاومة للاحتلال بأي شكل من الأشكال، كما روجت لعملية تصفية واعتقال قيادات المقاومة الفلسطينية تحت مسمى “معالجة الانفلات الأمني” الهادف ظاهرياً إلى القضاء على مروجي السيارات المسروقة والمخدرات، التي تزامنت مع خطة سلام فياض لبناء مؤسسات الدولة الفلسطينية، كانت تهدف لتفتيت المقاومة وتأمين كيان الاحتلال، بحسب ما ورد في جريدة الأخبار اللبنانية 2013م، التي أضافت كاتبتها “علا التميمي”، في مقال لها بعنوان “هكذا تقتل الـ”يو أس إيد” بذور المقاومة الشعبية لفلسطين”، أن “الخطة ومشاريع الوكالة لا تترك للكفاح الوطني إلا القليل، حيث لا يتعدى الجملتين بالإشارة تحديداً الى (المقاومة الجماهيرية السلمية لا المسلحة)”، و “من خلال شراكة مباشرة وغير مباشرة مع السلطة الفلسطينية، قامت “يو أس إيد” بتقديم تعريف الإرهاب في فلسطين وحصره في حركات المقاومة، وجعلت من أهدافها العمل على القضاء على الظروف والعوامل التي تغذيها”، واليوم يستخدمها الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” لابتزاز الفلسطينيين بالقبول على ما تسمى “صفقة ترامب” أو “صفقة القرن” لسلب الأرض الفلسطينية، ما لم فسينقطع دعم الوكالة على الفلسطينيين.
دورها في اليمن
من خلال ما سبق يتضح أن اليمن قد يكون وقع في وقت سابق، إن لم تكن لا تزال، في شراك الوكالة وسار بكل اجتهاد واهتمام وفق الخطط والاتفاقيات المبرمة، لكن الوكالة لم تكتف بذلك بل، سعت أيضا – إلى جانب ما ورد أعلاه – إلى إلغاء وتعديل جميع القوانين والتشريعات الوطنية؛ ومواءمتها مع الأحكام التي تضمنها العهد الدولي، من خلال تعديل جميع القوانين والتشريعات الوطنية؛ وفق الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، والدعوة لإلغاء القوانين الوطنية التي تخالف ذلك، وخاصة المتعلقة بالانتخابات، أو بتولي المرأة للقيادات العامة و القضاء، أو بالمساواة المطلقة بين الذكر والأنثى وأكثر من ذلك، أو بحرية المرأة المطلقة وبدون قيود، إضافة إلى المراجعة الشاملة لجميع القوانين والتشريعات الداخلية، والتعديل والحذف لبعض المواد التي تتعارض مع أهداف المعهد الديمقراطي التي يروج لها في اليمن، وهنا يحضر ما أشار له الكاتب “فيليب آجي”، المذكور آنفا.
إلى ذلك حاولت الوكالة الضغط على السلطة اليمنية من أجل تمرير ما أسمته مؤتمرات الأمم المتحدة “التنوع الجنسي” أو “المثلية الجنسية” ومن ذلك ما جاء في تقرير منظمة العفو الدولية الصادر عام 2012م، الخاص بالحقوق السياسية والمدنية ومطالبته للحكومة اليمنية بـ ”إلغاء المواد 263 و264 و267 و268 من قانون الجرائم والعقوبات، التي تجرِّم العلاقات الجنسية المثلية التي تتم بالتراضي”.
وعكفت الوكالة على توقيع اتفاقيات تعاون زراعية مع اليمن تقتضي دعم المزارعين في كثير من المناطق من أجل تشجيع التنوع في المحاصيل على حساب زراعة البن، الذي يعد المنتج القومي والاقتصادي الأول في البلد، وتركزت البرامج المنفذة منذ العام 2004م في صعدة، وعمران، ولحج، وحجة، ومارب، والجوف، بالإضافة إلى اتفاقيات منع زراعة القمح في الجوف وغيرها مقابل استمرار الدعم، إلى جانب اتفاقيات بين الوكالة ووزارة المالية وبرامج تعاون مشتركة، ومستمرة حتى اليوم مع حكومة المرتزقة، التي تستمر وزارة ماليتها بتجديد لقاءاتها بالوكالة في عدن حتى العام 2018، وتستمر في الرياض إلى ما بعد هذا التاريخ.
استغلال العمل الإنسانية
بعد إعلان العدوان على اليمن، الذي تقوده السعودية والإمارات، ومن ورائهما أمريكا وإسرائيل، منذ مارس 2015م، لجأت الوكالة إلى العمل الإنساني بشكل ظاهري لكنها ظلت تخفي عملها الحقيقي خلف رداء الإنسانية. وعلى عكس المناطق التي يديرها المجلس السياسي الأعلى، تبدو الوكالة في مناطق الاحتلال أكثر وضوحا، حيث تستطيع وزارة داخلية المرتزقة نشر أخبار اجتماعات تضم مديرها القطري “ميري آيلين ديفيت” على رأس وفد السفارة الأمريكية في اليمن، مع من يسمى بوزير الداخلية هناك، “أحمد الميسري” منتصف 2019م. إذ يثمن الأخير الدور الأمريكي لدعم من تدعى بـ “الشرعية”، بينما يؤكد السفير الأمريكي “كريستوفر هنزل”، استمرار الدعم، وتتكفل الوكالة بتنفيذه وتقديم السلاح للمرتزقة والجماعات الإرهابية، كما فضحتها القوات المسلحة اليمنية مؤخراً.
أما في مناطق المجلس السياسي الأعلى، فقد استخدمت عملها الإنساني لتقديم نفسها بصورة خطيرة وماطرة، تمكنها من تحقيق اختراقات أمنية ومجتمعية وثقافية، ولعل ذلك ما يفسر رفض الكثير من المشاريع التي تقدمها من قبل “المجلس الأعلى لتنسيق الشؤون الإنسانية والتعاون الدولي” (سكمشا). بحسب المعلومات التي توصلنا لها في هذا الجانب فإنه علاوة على كون مشاريع الوكالة لا تمثل أولوية طارئة في الظروف الحالية لليمن، وإلى جانب أنها تخصص معظم الموازنات لمكاتب المنظمات ونفقات تشغيلية، فهي في الأساس تستهدف مناطق كثافتها السكانية ضئيلة وتعتبر محايدة أو غير متفاعلة لتوفير مصادر دخل لهم وتشجيعهم على الحياد في ما يتعرض له اليمن من عدوان، وكذا بناء علاقات مع القيادات المتواجدة في هذه المناطق – إدارية واجتماعية وقبلية – وتخصيص مبالغ كبيرة لبعضهم كرواتب أو امتيازات، كما عملت منظمة “مرسي كور” و”كير” و”أكتد” (تحقيق سابق للثورة) في محافظتي صنعاء والمحويت، وهذا يؤدي إلى تشكيل صورة لدى المواطنين أن هذه المنظمات تقدم دعم كبير للمجتمع والشعب بينما تستحوذ علية هذه القيادات التي أصبحت محسوبة على المجلس السياسي الأعلى.
من بين نشاطات الوكالة وغيرها من المنظمات الأمريكية الأكثر ريبة، تركيزهم على محافظات ومديريات معينة تعتبر خلفيات جبهات، ورصدهم لهذه المديريات مبالغ كبيرة قد تصل لعدة برامج في آن ومن مانح واحد فقط – غير برنامج الغذاء العالمي وبعض المنظمات الأممية، بحجة التنمية – هذه المبالغ أكثر من مخصصات التنمية المعتمدة في الباب الرابع قبل العدوان، أي حينما كان اليمن يصدر البترول، فعلى سبيل المثال كان مرصود لمحافظة ذمار كلها قبل 2014م، ثلاثة مليارات ريال بينما رصدت الوكالة وأخواتها حاليا، لمديرية وصاب السافل أكثر من مليارين ريال ومديرية وصاب السافل خلفية لجبهة عسكرية وينفذ فيها مشروعين من نفس الممول عبر منظمة أخرى بدأت في 2017م، أما مديرية مناخة فخصصت لها أكثر من ثلاثة مليارات ريال.
وفي ظل هذا الانكشاف الكبير الذي فضح الدور المشبوه للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، لتصبح يد أمريكا الخفية لتدمير اليمن عسكرياً واجتماعياً واقتصادياً وأخلاقياً، يضع التساؤل نفسه على مرأى ومسمع من الشعب: هل ستحذو اليمن حذو غيرها من الدول التي ألغت اتفاقيات التعاون مع الوكالة وطردت موظفيها وأوقفت نشاطها نهائيا؟ أم ستظل الوكالة تسرح وتمرح عابثة بالبلد كيفما تشاء؟ ولعل السلطة اليمنية جديرة بالإجابة.