إرتيريا تعبر الى النظام الدولي على جماجم اليمنيين
زيد المحبشي
في حروب المحاور بما فيها من قذارة تتقدم مصالح الرعاة الدوليين على المصالح القُطرية والقومية، فتضطر الأدوات الإقليمية الى التحالف مع قوى لا تتوافق مع مبادئها خدمة لأسيادها، بما يسمى بتحالفات الضرورة بين المتناقضات كما هو حال التقارب المفاجئ بين السعودية وإرتيريا ما بعد مارس 2015.
وبشهادة الدبلوماسي السابق في سفارة إرتيريا بالسعودية “فتحي عثمان” فما يربط إرتيريا والسعودية مجرد علاقات عابرة اتسمت دوماً بالريبة وعدم الثقة، لكن حقائق الجغرافيا أجبرت السعودية على إدخال إرتيريا في تحالف عدوان العاصفة على اليمن.
وكانت الرياض قبل عدوانها الآثم على اليمن تنظر بعين الريبة إلى إرتيريا بسبب علاقتها مع طهران، ما أدى الى الجفاء والقطيعة بينهما، حيث كانت أخر زيارة للرئيس الإرتيري الى الرياض في العام 1998، وفي مايو 2008 زار الرئيس الإرتيري طهران، ما تسبب في غضب السعودية، التي كانت حينها تشارك النظام اليمني السابق في الحرب الجائرة على أبناء صعدة، متهمة طهران وأسمرة بدعم حركة أنصار الله، رغم نفي “أفورقي” حينها ذلك وتأكيده بأن زيارته لطهران لم تكن موجهة للسعودية، وإنما كانت موجهة لواشنطن والغرب، اللذان وقفا مع إثيوبيا وجيبوتي في مسعى لإسقاط نظامه.
وما يهمنا في هذه الجزئية هو التأكيد على ارتباط التحركات السعودية في القرن الإفريقي بصورة عامة بحرب المحاور، بين محور الممانعة والمقاومة بقيادة إيران ومحور التطبيع والاعتدال بقيادة واشنطن، ولذا فالتوجه السعودي نحو أسمرة يأتي في سياق مساعي محور الشر لتقويض التوسّع والنفوذ البحري الإيراني المتعاظم في منطقة القرن الإفريقي، لما يشكله هذا النفوذ من خطر وجودي على الكيان الصهيوني، والمصالح الأميركية في منطقة القرن الإفريقي وباب المندب والمحيط الهندي وجزيرة العرب، ولا نبالغ إن قلنا أن إعادة الاعتبار السياسي المفاجئ لإرتيريا وربطها مجدداً بالسعودية وأحلافها السياسية المشبوهة في المنطقة، يظل الأكثر اثارة من الوجود العسكري الاماراتي في إرتيريا.
مع انطلاق عاصفة العدوان على اليمن، رأت الرياض ضرورة جس نبض القيادة الإرتيرية وجذبها الى حلفها، لاستخدام أراضيها قاعدة بديلة يلجئ لها تحالف الآثم والعدوان في حال تورط السعودية في اليمن، وخروج الخطة المرسومة عن السيطرة.
وتحدثت وكالة الأنباء السعودية عن لقاء جمع ولي عهد الملك السعودي “مقرن بن عبدالعزيز” بالسفير الإرتيري لدى الرياض “محمد عمر محمود” بقصر اليمامة قبل انطلاق عدوان العاصفة بأسابيع، بحضور اثنين من أهم مستشاريه، هما “فيصل بن خالد بن سلطان” و”منصور بن مقرن”، ما يعني أن الرياض خططت للحرب على اليمن قبل أسابيع من بدء العمليات، وأبلغت دول الطوق بذلك، وبالتالي فما أرادته من اللقاء تقديم مطالب محددة لإرتيريا على رأسها قطع العلاقة مع إيران والانخراط في هذه الحرب الإجرامية.
وبعد انطلاق عدوان العاصفة بشهر استقبلت إرتيريا في 26 – 28 أبريل 2015 وفود رفيعة المستوى من السعودية والإمارات لبحث امكانية استخدامها كقاعدة للعمليات العسكرية على اليمن، كما تفقدت الوفود مينائي “عصب” و”مصوع” وعدداً من الجزر الإرتيرية المتاخمة لليمن، على إثرها زار الرئيس الإرتيري الرياض في 28 – 29 أبريل 2015، ووقع معها على اتفاق تعاون عسكري وأمني لمحاربة الإرهاب والقرصنة في مياه البحر الأحمر، وعدم السماح لأي تدخلات أجنبية في الشأن اليمني، والسماح بإقامة قواعد عسكرية في إرتيريا، لتتكفل بعدها الإمارات بالتفاصيل كما سنعرف في المبحث القادم، بينما يرى موقع “ستراتفور” سبتمبر 2015 أن الخارجية السعودية رفضت الاشتراك في أي مفاوضات مع الجانب الإرتيري منذ البداية، وأنها أوكلت الموضوع كاملاً للإمارات، والذين أدوا المهمة على أكمل وجه، ولم تتدخل السعودية إلا لمراجعة الاتفاقيات وتطبيق بنودها.
وعموماً فقد لعبت الإمارات دور السمسار في هذا التقارب ما بعد 2016، بينما واصلت السعودية رعاية وإدارة الوجود العسكري لتحالف دار الندوة في جيبوتي، ومن أهم نتائج التقارب السعودي الإرتيري:
1 – توقف ظاهرة القرصنة البحرية والتي لم تكن في الأساس سوى ورقة ابتزاز دولية بأدوات محلية لتبرير التواجد العسكري الأجنبي في تلك المنطقة المنكوبة من العالم.
2 – قيام النظام الإرتيري بطرد معارضين يمنيين الى بلادهم بطلب من الرياض، وقطع علاقاته مع إيران، ومباركة العدوان على اليمن، وتقدم صفوف المعترفين بشرعية الرئيس المنتهية ولايته الفار من وجه العدالة “عبدربه منصور هادي”، وفتح بلاده لإدارة العمليات القتالية والحصار البحري على اليمن.
4 – تكفل المال السعودي بإنقاذ إرتيريا من الغرق وإطفاء النيران التي أشعلتها مع جيرانها وتمهيد الطريق أمام الإمارات لتعزيز وجودها العسكري هناك، وإقامة أول وأكبر قاعدة عسكرية لها خارج حدودها بإقليم العفر جنوب السواحل الإرتيرية، تدير من خلالها مؤامراتها التآمرية القذرة في المنطقة برمتها.
* إرتيريا .. تقبض ثمن دماء اليمنيين
دخلت إرتيريا في العام 2000 مرحلة مفصلية، بسبب قرار نظامها استبدال أعمال القرصنة البحرية بتجارة القواعد العسكرية، بموجب ذلك تحولت إرتيريا الى بازار عالمي لبيع وتأجير القواعد العسكرية – سُمِّيت تندُّراً بدولة القواعد – بدءاً بالتواجد العسكري الكثيف للكيان الصهيوني في منطقة عصب وما رافقه من انتعاش لهذه المنطقة بعد عقودٍ من الكساد والركود، ومررواً بحج وفود تحالف العدوان على اليمن في العام 2015 الى أسمرة ومخاضاته، وانتهاءً بعودة المياه الى مجاريها مع واشنطن في العام 2018 بعد تسع سنوات من العقوبات الدولية على أسمرة وما رافقها من توجيهات أميركية صريحة وعاجلة للإمارات والسعودية بسرعة إخماد الحرائق التي أشعلها نظام “أفورقي” في محيطه الإقليمي، وتنظيف الفناء الإرتيري من التمدد الإيراني.
عوامل عديدة دفعت بالنظام الإرتيري للمسارعة في الانضمام للتحالف السعودي الإماراتي، والسماح لهذا التحالف باستخدام أراضي وأجواء ومياه بلاده في العدوان على اليمن، على رأسها الوضع الداخلي المفتقر لأبسط مقومات الحياة، والعزلة والعقوبات الدولية الخانقة, والمشاكل الحدودية المتفاقمة، والقطيعة العربية والإسلامية، والتي أصبحت معها تحركاته الخارجية محدودة، وما رافق ذلك من آثار كارثية جعلت مستقبل النظام الدكتاتوري الحاكم في إرتيريا على المحك.
هذه الأمور مجتمعة جعلت من انطلاق عملية عاصفة العدوان على اليمن في 26 مارس 2015 بمثابة طوق النجاة للنظام الإرتيري، وتأشيرة جواز طال انتظارها للعبور مجدداً الى النظام والمجتمع الدولي والمحيط العربي والإسلامي بعد ثلاثة عقود من القطيعة والعزلة، والحصول على فرص اقتصادية إرتيريا في أمس الحاجة إليها، وفك العزلة الدولية التي عانت منها لسنوات طويلة، وطي صفحة الخصومة مع واشنطن والغرب عموماً، وقطع الطريق أمام الخصوم الإقليميين وتحديداً جيبوتي وإثيوبيا الذين تسابقوا إلى الترحيب بعمليات التحالف في اليمن، والتنديد بالتحالف المتوهَّم بين الرئيس الإرتيري وإيران.
وما يعنينا في هذه القراءة هو الوقوف على مكاسب النظام الإرتيري من المشاركة في العدوان على اليمن، على أن نتحدث عن تداعيات هذه المشاركة على بلاده وعلى اليمن في مبحثنا القادم عن تبعات وجرائم الوجود العسكري الإماراتي في إرتيريا.
1 – تطبيع العلاقات مع المحيط الإسلامي والمجتمع الدولي:
يعتقد الرئيس الإرتيري أن وجود القواعد الخليجية في بلاده يمثل اعترافاً بشرعية نظامه الدكتاتوري وتبييضاً لجرائمه بحق شعبه وجيرانه، كما أن انخراطه مع تحالف عدوان العاصفة بقيادة السعودية والمشاركة في الحرب الجائرة على اليمن، من شأنه مساعدة إرتيريا على تطبيع علاقاتها عبر البوابة السعودية مع العالم الإسلامي ككل ومسلمي إفريقيا على وجه الخصوص، وتوسيع علاقاتها الخارجية مع المجتمع الدولي، في إطار محاولاتها لكسر عزلتها الاقتصادية وجلب مستثمرين غربيين إليها، وإمكانية اعتبارها حليفاً في الحرب على ما يسمى بالإرهاب، بعد أن كانت تُتهم بدعم واحتضان الجماعات الإرهابية.
2 – الغاء العقوبات الدولية:
في العام 2009 اتهمت واشنطن أسمرة بتقديم دعم سياسي ومالي ولوجستي للحركات الصومالية القريبة من تنظيم القاعدة، ما أدى الى فرض حزمة من العقوبات على إرتيريا بموجب القرار الأممي رقم 1907، شملت حظر شراء الأسلحة، وتجميد أموالها وأصولها المالية ومواردها الاقتصادية، ومنع سفر بعض شخصيات الدولة.
وفي أبريل 2015 عقدت إرتيريا اتفاقية شراكة أمنية وعسكرية مع التحالف السعودي الإماراتي، توفر إرتيريا بموجبها الدعم اللوجستي المباشر للعمليات القتالية في اليمن .. ألخ، مقابل رزمة من الامتيازات والوعود من بينها العمل على إبطال مفاعيل القرار الأممي 1907 ورفع الحظر الدولي، وبالفعل تم لإرتيريا ذلك بعد ثلاث سنوات من انخراطها في حرب اليمن الظالمة، وكان للمال السعودي الإماراتي دور محوري في دفع واشنطن لإقناع مجلس الأمن برفع العقوبات في 14نوفمبر 2018، في خطوة بدت فيها واشنطن وكأنها تُعيد تأهيل أكثر الأنظمة الإفريقية انغلاقا، مانحة أسمرة صك العبور إلى ملعب النظام الدولي بعد أكثر من ثلاثة عقود من العزلة الإجبارية.
واقعياً، لم تعد إرتيريا معزولة بالأساس مع انهيار نظام العقوبات وفقدانه وظيفته بشكل فعلي منذ عام 2015 على الأقل، لعدة مبررات أهمها: تضمن اتفاقية تأجير ميناء ومطار عصب الموقعة مع الإمارات في مايو 2015 مزايا عسكرية تتعارض كلية مع بنود قرار الحظر الدولي 1907 والمواثيق الدولية، منها سماح إرتيريا للتحالف السعودي الإماراتي بإقامة قواعد عسكرية على أراضيها واستخدام أراضيها ومياهها وأجوائها في العدوان على اليمن، وتنازل الإمارات بعد انتهاء الحرب على اليمن عن كل الأسلحة والمعدات الموجودة على قاعدتها في ميناء عصب لإرتيريا، ناهيك عن الأفعال المرافقة للتواجد العسكري الإماراتي من قبيل تقديم المساعدات العسكرية للجيش الإرتيري وتدريب وتأهيل أفراد قواته البرية والجوية في المعاهد العسكرية والهندسية الإماراتية.
ورغم ما شكله ذلك من انتهاك صارخ لحظر تصدير الأسلحة المفروض على الدول الإفريقية بموجب عقوبات عام 2009، وما ترتب عليه من ردة فعل عنيفة من إثيوبيا وتحذير مبكر من فريق الخبراء التابع للجنة العقوبات المفروضة من مجلس الأمن الدولي على الصومال وإرتيريا من الانتهاكات التي تمارسها الإمارات للقرارات الدولية، من خلال تحركاتها العسكرية في إرتيريا ودعمها العسكري اللا محدود للنظام الإرتيري، لكن المال الخليجي المدنس جعل كل العالم وفي المقدمة البيت الأسود يتجاهل كل ذلك ويعيد وضع إرتيريا من جديد على الخارطة الدولية.
3 – إطفاء الحرائق مع الجوار الإقليمي:
وهي المهمة الثانية لدول تحالف العاصفة بالتوازي مع إلغاء قرار الحظر الدولي، بتوجيه من واشنطن في يونيو 2018، وبالفعل نجحت أدوات واشنطن في المصالحة بين إرتيريا وإثيوبيا في 9 يوليو 2018 ، وإرتيريا والصومال، وإحراز تقدم في حل النزاع طويل الأمد بين إرتيريا وجيبوتي، والدخول في مفاوضات لحل نزاعها مع السودان.
تأتي هذه التحركات في إطار مساعي واشنطن وتل أبيب لتهيئة المسرح السياسي في القرن الإفريقي، من أجل الترتيب الأميركي الجديد لمواجهة التمدد الايراني والروسي والصيني في المنطقة، خصوصا بعد توارد الأنباء عن مبادرة روسية لبناء مركز لوجستي في ميناء “عصب” الإرتيري، كان من الممكن أن يمنح موسكو هي الأخرى موطئ قدم عسكري في القرن الإفريقي شديد الازدحام.
4 – الفوائد الاقتصادية:
حصلت إرتيريا على دعم مالي سعودي ومساعدات نفطية بحسب الأمم المتحدة، كما قدّمت الإمارات مساعدات مالية وعينية وتعهدات بمشروعات للبنية التحتية أهمها تطوير مطار أسمرة الدولي وتحديث شبكة الكهرباء الإرتيرية، وحزم مخفضة للوقود، وبناء خط أنابيب نفط يربط بين ميناء حيوي في إرتيريا والعاصمة الإثيوبية “أديس أبابا”، وقائمة طويلة من الوعود الإماراتية للاستثمار في مجالات الزراعة والتصنيع وتطوير البنية التحتية المادية.
وما يهمنا هنا تنصيص عقد إيجار ميناء عصب على دفع مؤسسة الموانئ والجمارك والمنطقة الحرة في دبي مقابلاً سنوياً للسلطات الإرتيرية – إيجار مالي، إضافة إلى حصول إرتيريا على 30 بالمائة من إيرادات الميناء بعد تشغيله بواسطة الشركة الإماراتية، وإنشاء خمسة فنادق سياحية بدرجة أربعة إلى سبعة نجوم، وتحدث تقرير لجنة المتابعة والرصد التابعة للأمم المتحدة عن حصول أسمرة على نصف مليار دولار كاش مقابل تأجير ميناء عصب.
وإجمالاً يعتقد النظام الإرتيري أن الدعم السعودي والإماراتي الهابط عليه من سماء العاصفة خطوة منطقية في سبيل تشكيل شراكات جديدة لبلاده، التي تحاول أن تُظهر للمجتمع الدولي قدرتها على لعب دور بنّاء في المسائل الأمنية الإقليمية، وهو الهدف الذي سعت له منذ فترة طويلة.