التوجه نحو زراعة الحبوب خيار استراتيجي لتأمين الغذاء والتحرر من الهيمنة الاقتصادية
وتشهد الزراعة في اليمن تراجعاً وإخفاقات كبيرة منذ السبعينيات، فبينما كان يحقق اليمن الاكتفاء الذاتي من المنتجات الزراعية فقد تراجع إلى 15 % وتدنت مساهمة الناتج الزراعي في الدخل المحلي الإجمالي إلى 13 %، برغم أن المجتمع اليمني مجتمع زراعي ويعمل في هذا القطاع 53 % من قوة العمل، كما يعتمد 47 % من السكان على عوائد الإنتاج الزراعي.
فحسب معلومات إحصائية متعددة فإن اليمن تستورد سنوياً نحو 3 ملايين طن من القمح، وما يقارب 750 ألف طن من الذرة الشامية، وأكثر من 150ألف طن فول الصويا المستخدم كأعلاف للدواجن، ويصل حجم كلفة الاستيراد للحبوب إلى مليار و800 مليون دولار سنوياً.
وفي قراءة سريعة عن حال الزراعة والمزارع اليمني لاحظنا أن المزارع اليمني صار غير قادر على الاعتماد على مزرعته في توفير متطلباته المعيشية، حيث كان قبل ما يزيد عن عقد ونصف من الزمن يعتمد عليها في جلب أموالٍ تلبي احتياجات أسرته من غذاء ودواء وتعليم وغيره.. ومع زيادة مضطرده في تعدد إمكانات ومتطلبات المعيشة وشح دخل المزارع المعتمد على عائدات أرضه الزراعية اضطر المزارع إلى التوجه نحو العاصمة صنعاء أو عدن أو أي مدينة يمنية تزدهر بحركة تجارية لإنشاء مشروع صغير؛ إما دكان لبيع المواد الغذائية أو بسطة أو عربية أو وظيفة أو الاغتراب خارج الوطن للبحث عن لقمة العيش.
وفي استطلاع للرأي أكد مختصون في الشأن الزراعي أن الزراعة التقليدية في مناطق ريفية مختلفة تشكو حاليا من مشكلة يمكن أن تكون شبه عامة وتتمثل في قلة الأمطار وهطولها في غير مواسمها المعتادة التي عادة ما تكون الأنسب للزراعة، الأمر الذي أدى إلى تراجع إنتاج المزارع اليمني من مختلف الحبوب التي يزرعها.
أبحاث مناخية واقتصادية تناولت مشكلة المتغيرات المناخية التي تشهدها اليمن وأكدت في توصياتها على أن للمشكلة مخاطرها المتعددة، فهي لا تقتصر على القطاع الزراعي، بل إنها ولدت معضلات اقتصادية لتشكل تهديداً لمختلف مناحي الحياة، وهناك تجاهل كبير من قبل الدولة إزاء ما يحدث.
ويشير المختصون الزراعيون إلى أن هذه المتغيرات المناخية أفرزت فيما يتعلق بالقطاع الزراعي تحديات تواجه التنمية الزراعية في اليمن وجميعها ناجمة عن الاختلالات في إدارة القطاع الزراعي وموارده، الأمر الذي خلف تشوهات كبيرة في هذا القطاع، حيث أهملت الدولة تنمية قطاع الزراعة لعقود وقت من الزمن وعملت على استغلال أهم موارد المياه بطريقة سلبية، إلى جانب غياب التوعية والإرشاد الزراعي للعاملين في هذا القطاع خاصة في ظل تهديدات المتغيرات المناخية.
وأن عدم قيام الدولة بدورها إزاء هذه المتغيرات المناخية خاصة في مجال التنمية الزراعية زاد من مخاطر انعدام الأمن الغذائي، وأصبح اليمن بلداً مستورداً بامتياز، حيث يستورد ما نسبته 90 % من احتياجاته من الخارج بما فيها الغذاء، الأمر الذي يوّلد ضغطاً وطلباً متزايداً على النقد الأجنبي، وهو ما يقود إلى مزيدٍ من تدهور العملة الوطنية “الريال” أمام العملات الأجنبية وبالأخص الدولار، وكل ذلك يزيد من حدة الأزمات الاقتصادية التي تهدد حياة الإنسان اليمني.
مهندسون زراعيون بدورهم قالوا: إن هناك قصوراً معرفياً لدى الكثير من اليمنيين بما فيهم المزارعين وأصحاب القرار في الدولة فيما يخص التحديات التي تفرضها المتغيرات المناخية، كما تعاني المكتبة اليمنية من ندرة الأبحاث العلمية المتخصصة في هذا الجانب، الأمر الذي يزيد من خطورة المتغيرات المناخية على مختلف مناحي الحياة في اليمن، خاصة فيما يتعلق بالأمن الغذائي، فكلما كان هناك قصور معرفي كلما تأخرت البلد عن وضع المعالجات والبرامج التي تحد من مخاطر المتغيرات المناخية.
آفة القات..!
من جهة أخرى تقول تقديرات إن 85 % من إجمالي المساحات الزراعية اليمنية مُعرضة للتدهور بشكلٍ أو بآخر وإن نسبة كبيرة من إجمالي تلك المساحات تفقد سنوياً بسبب الزحف العمراني والتصحر، وإن إجمالي المساحات المزروعة لا يزيد عن مليون و600 ألف هكتار في أفضل الأحوال تمثل أقل من 14 % من مساحة الجمهورية، يعمل في الزراعة نحو 53 % من إجمالي قوة العمل مع ذلك فنصيب الزراعة في الصادرات لا يزيد عن 5 % في أفضل الأحوال، بسبب ضعف التسويق الزراعي.. كما أن هذه النسبة تلاشت واختفت كليا بفعل الحصار الجائر الذي يفرضه العدوان السعواماراتي مما زاد من خسائر المُزارعين إضافة إلى تدهور مياه الري، وغلاء أسعار مستلزمات الزراعة من بذور، وارتفاع تكاليف النقل مع ارتفاع أسعار الوقود، فضلا عن الكارثة الكُبرى والمتمثلة في زراعة شجرة القات، الشجرة التي تؤكد العديد من الدراسات أنها أصبحت تسيطر على مساحةٍ كبيرةٍ من الأراضي الزراعية، وأنها تمثل السبب الرئيسي لاستنزاف جائرٍ للمياه الجوفية إذ تقوم زراعته على حساب الفواكه والخضروات والحبوب، حيث رصدت خلال العقود الثلاثة الأخيرة زيادةٌ كبيرةٌ في حجم المساحات المزروعة بشجرة القات وبنسبةٍ تصل إلى العشرين ضعفاً.
متخصصون في مجال الزراعة حذروا من أن منطقة صنعاء معرضة لكارثة الجفاف نظراً لأن أشجار القات تستنفد نحو 70 % من الموارد المائية، وأن على الحكومة المسارعة إلى تطوير قطاع المياه من خلال إيجاد مُعالجات وفي مُقدمتها انتهاج مبادئ هادفة لتحديد الأهداف وصياغة السياسات وتطوير ملامح الاستراتيجية الزراعية في محاولة لإيقاف استنزاف المياه وتقنين مساحة القات وزراعته بحيث يتم خفض نسبة زراعة القات في الأراضي الزراعية فإن الناتج الزراعي المحلي سيشهد نمواً مُتصاعداً في زراعة الخضروات والحبوب والفواكه في الطريق نحو تحقيق اكتفاء ذاتي منها.
الظروف الطبوغرافية
المعروف أن تضاريس الأرض اليمنية صعبة ولا توجد أنهار وإمدادات المياه شحيحة، على الرغم من كل هذه العوامل تمكن اليمنيون القدماء من ابتكار نظام ري يؤدي إلى المحافظة على المياه قل نظيره في العالم القديم مما مكنهم من زراعة محاصيل متنوعة واستطاعوا تحويل الجزء الجنوبي من الجزيرة العربية إلى أراض زراعية.
وتتسم الزراعة في اليمن بتفاوت الخصائص المناخية، خاصةً معدلات الأمطار ودرجات الحرارة والرطوبة واختلاف الظروف الطبوغرافية وهو ما يؤدي إلى تنوع الإنتاج الزراعي.
حيث يأتي الإنتاج النباتي في المرتبة الأولى من حيث مساهمته في إجمالي الإنتاج الزراعي، حيث يصل في المتوسط إلى( 76.5 %)، وبصورة عامة ينقسم الإنتاج النباتي إلى: (محاصيل الحبوب -حيث تحتل المركز الأول من إجمالي الإنتاج النباتي- يليها الخضروات، والفواكه ثم المحاصيل النقدية، والأعلاف).
كما يأتي الإنتاج الحيواني في المرتبة الثانية بعد الإنتاج النباتي من حيث مساهمته في إجمالي الإنتاج الزراعي، حيث يصل في المتوسط إلى( 23.5 %)، ويساهم الإنتاج الحيواني بنسبة كبيرة من سد احتياجات السكان. حيث يتنوع هذا الإنتاج في تربية الأغنام والماعز والأبقار والجمال، إلى جانب الاهتمام بتربية الدواجن والنحل. وهو ما يوفر للسكان قدراً مناسباً من اللحوم الحمراء والبيضاء والألبان والأجبان والبيض والعسل والصوف والجلود…الخ.
والملاحظ أن تربية الحيوان تعتمد كثيراً على أسلوب الرعي التقليدي حيث توجد العديد من المناطق الرعوية والتي تمثل المصدر الطبيعي لغذاء الماشية غير أن الاعتماد على هذا الأسلوب في الرعي أثر بدوره على الغطاء النباتي وساعد على مفاقمة أسباب تعرية التربة والتقليل من نمو المساحات المزروعة.
دمار وحصار خانق
العدوانُ السعودي الأمريكي على اليمن استهدف كلَ شيءٍ في البلاد، وكان للقطاعِ الزراعي نصيبُه أيضاً من هذا العدوان، حيث بلغ عدد المنشآت الزراعية المدمرة جزئياً أو كليا مائة وإحدى وثلاثين منشأة وذلك على مداى خمسِ سنواتٍ من العدوان.. وبلغت خسائرُ البلادِ في هذا المجال اكثرَ من 16مليارَ دولار وقد حاصرت السعودية اليمن ومنعت عنه كل الواردات وحرمته من التصدير، معتمدة على سياسة تجويع الشعب اليمني.
ورغم كل هذا العدوان والقصف الهمجي والحصار الخانق إلا أن الشعب اليمني لا يزال صامدا أمام محاولات الرياض التي لم تجد طريقا لتعويض خسائرها في المجال العسكري إلا باستهداف المواطن اليمني ولقمة عيشه.
الاستثمار الزراعي
تتوافر في اليمن العديد من المميزات في مجال الاستثمار الزراعي منها :
أولا: اتساع الرقعة الزراعية الصالحة للزراعة.
ثانيا: اختلاف المناخ في كافة أنحاء اليمن.
ثالثا : توافر المواد الأولية بكميات كبيرة لقيام المشروعات في الصناعات الغذائية.
رابعا: تتوافر في اليمن الأيدي العاملة المتميزة بتدني كلفتها وقدرتها التنافسية ومهارتها العالية.
خامسا: سقوط الأمطار بكميات كبيرة في بعض محافظات الجمهورية.
سادسا: تتمتع اليمن بموقع استراتيجي يطل مباشرة على خطوط الملاحة البحرية الدولية بين أوروبا واسيا.. كما يعتبر المدخل الرئيسي إلى شرق القارة الأفريقية.
وفي ذلك إشارة إلى إن الاستثمار في القطاع الزراعي سيحقق للمستثمرين عوائد أفضل من الاستثمارات التقليدية مثل السندات والأسهم، ويتحقق ذلك بفضل زيادة الطلب على الأغذية محليا وإقليميا وعالميا، حيث تشير التوقعات إلى أن استمرار ارتفاع أسعار المنتجات الزراعية يفتح المجال أمام تحقيق عوائد استثمارية طويلة الأجل للمستثمرين في هذا القطاع.
وإن هذا الازدهار الزراعي سيستمر في التصاعد، وهو ليس ظاهرة آنية أو متقلبة، ما يعني استمرارية ظاهرة ارتفاع الأسعار التي تشهدها الأسواق حاليا.. فالحبوب والأرز والزيوت النباتية والسكر واللحوم ومنتجات الألبان على سبيل المثال تشهد نموا مستمرا، مما يتيح للمستثمرين إمكانيات تحقيق عوائد جيدة وتزيد في الأرباح عن العوائد المتحققة من الاستثمار في الأصول التقليدية كالأسهم والسندات.
إلى ذلك يناشد مهتمون وناشطون في الشأن الزراعي القطاع الخاص بأن يستشعر مسؤوليته الوطنية خلال هذه الفترة الحرجة التي يمر بها الوطن، فاليمن مساحات شاسعة وبإمكانهم الدخول في شركات استثمارية زراعية عملاقة من خلال التنسيق مع الجهات الرسمية في مسائل تجهيز الأرض وعمل الدراسات وحتى الدعم ببعض الإمكانيات بحسب الممكن والمتاح إمام الدولة..
محللون اقتصاديون يشيرون إلى أن بعض رؤوس الأموال في بلادنا لديها رأس مال كبير وبدلا من أن يضعوها في البدرومات عليهم أن يستغلوها في عمل نهضه تنموية زراعية وصناعية في اليمن.. مؤكدين أن جدوى الاستثمار في القطاع الزراعي كبيرة وممتازة، خصوصا أن اليمن بدأت تتحرر من تبعية القرار السياسي.. وقال بعض المختصين: صحيح أن هناك ضغوطات سياسية كانت تمارس في السنوات الماضية على القرار السياسي اليمني في فترة الزعامات السابقة بل إن الوزارة كان لديها اتفاقيات دولية بعدم زراعة الحبوب، لكنهم أكدوا في المقابل أن القرار السياسي الآن تحرر وأصبح بيد الشعب اليمني ليس بيد أمريكا والسعودية، والآن بمقدور القطاع الخاص أن يعمل ويستثمر بكل حرية.
لا شك أن هناك من رؤوس الأموال من هم حريصون على وطنهم وسيبادرون في الدخول في شراكات استنثاريه في القطاع الزراعي خصوصا وأن الاستثمار أصبح في الداخل هو المجدي.. الاستثمار في القطاع الزراعي لا يحتاج سوى قوة إرادة ومبادرة فقط والبدء بالعمل، الأرض موجودة والإمكانيات موجودة والمياه موجودة والإرادة والقرار السياسي يدعم ويشجع.. إذاً ما عليهم سوى البدء بالاستثمار في هذا القطاع الواعد.
ويؤكد الكثير من المهتمين بالزراعة في اليمن، أنه برغم العدوان والحصار الجائر إلا أن هذا لا يبرر التدهور الكبير الحاصل حاليا في القطاع الزراعي، فالمفروض الاستفادة من الحصار وعلى الجميع البحث عن بدائل ممكنة وبذل جهد أكثر لحل كل المشاكل المتعلقة بالمزارع والقطاع الزراعي كما يجب على الحكومة التوجيه بتكثيف البحث العلمي للبحث عن كل جديد واستنباط وإكثار أصناف جديدة والحفاظ على الأصول الوراثية للبذور وابتكار طرق زراعة حديثة وإرشاد وتوعية المزارعين حول كيفية تركيب منظومات الطاقة الشمسية وترشيد استخدام المياه والتوسع في شبكات الري، والحد من انتشار زراعة القات، واستصلاح الأراضي والتوعية بأخطار التوسع العمراني في الوديان والسهول الزراعية، واستغلال مياه الإمطار وحصاد مياه السيول ….إلخ، كذلك لا ننسى مرحلة ثانوية وليست أساسية نعتمد عليها ألا وهي ضرورة توجيه المنظمات والمشاريع والصناديق التوجيه السليم إلى دعم القطاع الزراعي بدلاً من أن تهدر اغلب دعمها في التدريب وبرامج بعيدة كل البعد عن التنمية والأمن الغذائي.. كل هذا سوف يساهم في التخفيف من معاناة المزارعين وتجاوز هذه الأزمة والحرب والعدوان ولو بالقدر الكافي مع إمكانية تطوير وزيادة الإنتاج الزراعي وتغطية السوق المحلية وبإذن الله وبعزيمة الجميع وجهودهم وإصرارهم سوف يأتي اليوم الذي نعتمد فيه على أنفسنا وتتصدر بلادنا قائمة الدول المصدّرة بأقل التكاليف الممكنة وبالطرق العلمية الصحيحة.