الحجَّة صالحة .. المرأة التي احتفظت بجذوة النصـــر تحت ركــام قـــرية النعيمــــــات
عباس السيد
استدرنا بالسيارة في رحلة العودة من النعيمات بوادي ملح نحو فرضة نهم، وبعد بضع دقائق لمحنا امرأة تخرج من أحد المنازل يبعد عشرات الأمتار أسفل الطريق الذي نمر فيه، في قرية صغيرة تسمى الجبيل .. تملكتنا الدهشة جميعا من المشهد الذي لم نتوقعه.. كيف، ومن، وماذا.. والكثير من الفضول والأسئلة تزاحمت في رؤوسنا؟
زاد رئيس التحرير من سرعة السيارة رغم وعورة الطريق، وكأننا وجدنا صيدا ثمينا، توقف أعلى القرية مباشرة، وقال موجها وناصحا: هذه المرأة يفترض أن تكون محور استطلاعكم الصحفي في وادي ملح.
ترجل ثلاثتنا، أنا والزميل عبدالقادر عثمان والزميل المصور فؤاد الحرازى، و انطلقنا نبحث عن المرأة، اختار كل منا طريقه، فلم يكن هناك طريق واضح، وكان علينا تجاوز منزلين لنصل إلى المنزل الذي نتوقع وجود المرأة عنده.
كنت بطيئا في السير، ولم أكن أتوقع استجابة المرأة للحديث معنا، وفوجئت حين سمعت صوتها وهي ترد على تحية الزميل فؤاد بأحسن منها وبصوت عال و نبرة ثقة خالية من الوجل والخوف الذي يطبع سلوك النساء عند مواجهة الرجال وخصوصا الغرباء عنهن.
دلَّني مصدر الصوت على المكان، وتبعت زميلي.. كان جهاز تسجيل الزميل عبد القادر جاهزا وذراعه ممدودة نحو المرأة وكل منهما يجلس على صخرة أمام المنزل، بينما يقف الحرازي شادا كاميرته إلى وجهه وقد ضبطها على السريع..الحرازي كان يصور بنَهَم، حتى أن الأصوات المتكررة والمتتابعة للكاميرا كانت تربك المرأة، وفي كل مرة تعيد رفع لثامها الذي ينحسر ويكشف عن إحدى أسنانها الفضية، فتشير إليه أن يتوقف، ولكن دون جدوى.
أنا أيضا كنت أشير إليه أن يهدّئ، لكن دون فائدة، حتى أنني قلت في نفسي، “فؤاد هو اللي بيصور أو الكاميرا بنفسها”!!
وفي الحقيقة كان فؤاد معذورا في “الدعمامة” واستمرار التصوير ، فهي، أي امرأة الجبيل، الكائن الحي الوحيد الذي وجدناه في وادي ملح.
اسمها صالحة…، سمراء، ” بدوية” تقولها باعتزاز.. تبدو في العِقد السابع من عمرها.. حفر الزمن تضاريس منطقتها على وجهها وكفيها.
على صدرها تتدلى ثلاث مسابح ومجموعة من المفاتيح تقرأ منها رسائل ودلالات كثيرة..
صالحة.. عجوز في سنها، لكنها قوية مثل صخور حيد الذهب، مثل أشجار الدوم الضاربة بجذورها في الأعماق، وتأبى الاقتلاع، تحيا وتثمر دون رعاية أو ماء.
كيف عاشت وحيدة في منزلها طيلة خمس سنوات؟ كيف صمدت في قريتها وسط جحافل الغزاة والمرتزقة؟ إنه لغز آخر من قصة الصمود والانتصار في نهم.
وقبل أن نسترسل معها لتفكيك هذا اللغز، انضم إلينا رفيقنا الشيخ شايف، ابن النعيمات، وما إن رأته صالحة، نهضت وأخذته بين احضانها في عناق طويل، حتى أن كاميرا الحرازي استأنفت عملها بسرعتها القصوى بعد فترة من التوقف، وهي وحدها -الكاميرا- قادرة على وصف تلك اللحظات الفياضة بالمشاعر والأحاسيس الوجدانية.
جلست صالحة وابن قريتها على صخرة واحدة، وبدت وكأنها في حلم، فكانت تتلمسه و تضع كفها على كفه، تضع رأسها على كتفه وكأنها تلقي حمولتها من المعاناة خلال السنوات الخمس.
حكت له عن مزارع القات خاصته وكيف استباحها المرتزقة، كان فيها مثل أم كلاب مثل أم ريام، وعن نعاجها التي شردت واختفت في جبال قرود حين سماعها انفجار قذيفة..نعجة واحدة فقط تبقت لها، سلخها المرتزقة “شووها هانال” وأشارت إلى آثار الرماد والنار على الصخور.
انشغلت صالحة عنا بابن قريتها ، وتحولت أنا وزميلي إلى مجرد متابعين لمشهد تراجيدي، وهي تحكي له فصولا من المعاناة خلال سيطرة المرتزقة على القرية، وبين الفينة والأخرى تعاود احتضانه، وتسأله عن حاله: ” أنت منعم يا شايف ؟! ” ثم تردف: كيف ” محمد “؟ وكيف فلان، وكيف علَّان…؟!.
ودَّعنا الحجَّة صالحة، وكنا نتمنى أن نقضي بقية اليوم معها لولا ظروفنا وبرنامج زيارتنا.. مشت صالحة خلفنا إلى ركن المنزل، وقفت شامخة تودعنا وتدعو لنا وهى تُلَّوح بيدها عاليا مثل زعيم حقيقي ، حتى احترنا من الذي يحتاج الرعاية المادية والدعم النفسي، نحن أم هي؟!