الأسواق التجارية خطر يهدد صنعاء القديمة والازدواجية تعيق عمل هيئة المدن التاريخية

الحديث عن معاناة صنعاء القديمة وما تتعرض له من عبث أصبح واضحا وجليا ولم يعد خافيا ولا يمكن لأحد إنكاره، أو إخفاء حقيقة أن المدينة القديمة تعاني اليوم كثيرا ومنازلها تتوجع وتئن بصوت عال يسمعه الجميع..

اليوم ومن خلال جولة ميدانية داخل صنعاء القديمة شاهدنا منازل مهدمة إما نتيجة لعوامل الطبيعة كالأمطار أو نتيجة لإستهدافها من قبل مقاتلات التحالف أو نتيجة للعبث والإهمال.

في صنعاء القديمة منازل مهدمة ومنازل على وشك السقوط ومنازل خالية من السكان ومنازل متضررة، ومنازل انحنت قاماتها ومالت لتعانق منازل أخرى تقابلها في الضفة الأخرى من نهر الطريق الذي أصبح العبور منه مغامرة محفوفة بالمخاطر.

“وكالة الصحافة اليمنية” وإيمانا منها بالقيمة التاريخية لمدينة صنعاء القديمة وفي محاولة منها لمناقشة المشكلة والتعرف على الأسباب التي تقف وراء كل ما تعانيه صنعاء القديمة من عبث وإهمال، قامت بإجراء هذا التحقيق الذي بحثت فيه عن الأسباب التي تقف وراء كل ما تتعرض له المدينة والتقت عددا من المختصين والمهتمين بحماية صنعاء القديمة ووجهت لهم جملة من التساؤلات وخرجت بالحصيلة التالية:-

متحف التراث الإنساني الحي

جما مرغم رئيس جمعية التراث الثقافي والسياحي في اليمن

في البداية التقينا الاستاذ جمال مرغم مستشار وزارة الثقافة ورئيس جمعية التراث الثقافي والسياحي في اليمن “تحت التأسيس” والذي طرحنا عليه جملة من التساؤلات المتعلقة بالاسباب التي تقف وراء ما تعاني منه المدينة فأجاب قائلا:

صنعاء القديمة ليست مدينة كبقية مدن التراث العالمي، لأنها ما تزال المدينة الحية وتمثل بانوراما متكاملة للتاريخ الحي، بمنازلها، واسواقها وسماسرها ومساجدها  ومشاغلها وورشها الحرفية إضافة إلى تمسك سكانها والتزامهم بالعادات والتقاليد وكل ذلك يشكل تراثا حيا ليس له مثيلا ولا يوجد الا في مدينة صنعاء.

أسباب المشكلة

 

وفي تشخيص لأبرز الأسباب التي تقف وراء المشاكل التي تعاني منها المدينة التاريخية قال جمال مرغم: “صنعاء وللأسف تعاني اليوم العديد من المشاكل التي تهدد بقاءها ضمن مدن التراث العالمي -إذا لم يتم إيقافها ووضع حد لها- ويتمثل أبرزها في ثلاث مشاكل أولها المخالفات التي تطال الطابع المعماري للمدينة وهذه المخالفات يقوم بها السكان اما من خلال الترميمات العشوائية للمنازل أو من خلال عمل استحداثات فيها أو من خلال بيعها وهدمها وبناء منازل جديدة مكانها.

ويتابع حديثه، أما المشكلة الثانية فتتمثل في الأسواق التجارية التي تتمدد وتتسع على حساب المنازل القديمة في الكثير من الأحياء، حيث يتم تحويل الأدوار السفلية من هذه المنازل إلى دكاكين ومحلات تجارية ومخازن للبضائع، ومثل هذه الاعمال تهدد أساسات المباني التي ترتكز في بقائها وثباتها على “مداميك” الأدوار السفلية التي تمثل قاعدة البناء.

أما المشكلة الثالثة فتتمثل في قيام بعض الجهات الحكومية بممارسة عبث يهدد معالم صنعاء، وفي مقدمة هذه الجهات وزارة الأوقاف التي تقوم بتأجير المباني والوقفيات داخل المدينة دون ضوابط ودون تنسيق مع الهيئة العامة للمحافظة على المدن التاريخية لحماية المباني والوقفيات القديمة حيث يقوم المستأجرون بتحويلها إلى محلات وأسواق تجارية.

تفاعل مجتمعي

وعن الاجراءات التي تم اتخاذها لإيقاف المخالفات والحد منها أكد جمال مرغم أن حماية صنعاء القديمة عمل وطني ومسئولية يتحملها الجميع دون استثناء، وترجمة لهذا المفهوم وبإعتبار أن المخالفات والاستحداثات يقف وراءها أصحاب المباني وينفذها بناؤن وعمال وحرفيون، قمنا وبتنسيق واشراف هيئة المدن التاريخية بإنشاء جمعية للبنائين والحرفيين تظم في عضويتها البنائين والحرفيين العاملين في مجال البناء التقليدي الصنعاني ومن خلال هذه التكوين المدني الجديد “جمعية حرفيي البناء التقليدي الصنعاني” أصبح البناؤون والحرفيون مسئولين عن أي مخالفة تتم داخل المدينة القديمة، خاصة وأن أي تصريح تصدره الهيئة للترميم أو البناء لأي منزل يتضمن اسم الحرفي أو “الاسطى” الذي سيقوم بتنفيذ العمل.

وأشار مرغم حديثه إلى ضرورة تفعيل الدور المجتمعي لحماية صنعاء القديمة ووضع حد لمثل هذه المخالفات التي تستهدف المدينة التاريخية.

ودعا أبناء صنعاء القديمة وخاصة التجار ورجال الأعمال إلى المساهمة الفاعلة وترجمة حرصهم في الحفاظ على مدينة صنعاء بشكل مادي من خلال دعم المشاريع والبرامج التي تستهدف حماية تاريخ وتراث مدينة صنعاء، مشيرا إلى أن استمرار مثل هذا العبث وخروج صنعاء من قائمة التراث العالمي سيمثل وصمة عار في جبين اليمنيين.

واختتم جمال مرغم حديثه بمناشدة المجتمع المحلي والمجتمع الدولي بتقديم كل ما من شأنه حماية صنعاء القديمة، مشددا على ضرورة أن تقوم الجهات الحكومية كالأوقاف وأمانة العاصمة والمجلس المحلي بالتنسيق مع الهيئة العامة للمحافظة على المدن التاريخية وعدم تجاوزها والرجوع إليها لما فيه مصلحة صنعاء القديمة واليمن بشكل عام..

البناؤون.. المشكلة والحل

الإتجاه لإنشاء جمعية تضم في عضويتها جميع الحرفيين والبنائين “الاساطية” تجسيد وترجمة حقيقية للتفاعل المجتمعي الذي سيكون له الأثر الكبير في الحد من المخالفات والتجاوزات التي تستهدف مدينة صنعاء القديمة، وكون هذا التوجه يجسد التعاون المطلوب بين الجهدين الرسمي والمجتمعي فقد حظيت الجعية بدعم وتبنٍ من قبل الهيئة العامة للمحافظة على المدن التاريخية، وحتى نتعرف على أهداف هذه الجمعية والدور الذي ستلعبه فيما يتعلق بحماية المدينة التاريخية التقينا الأخ أحمد سعد نواس رئيس الجمعية والذي حدثنا قائلا:

أحمد سعد نواس رئيس جمعية “حرفيي البناء التقليدي الصنعاني

أهداف أساسية

أهم المبادئ والأهداف الأساسية التي تسعى جمعية “حرفيي البناء التقليدي الصنعاني” لتحقيقها يتمثل في الحد من المخالفات والتشوهات التي تتعرض لها المدينة والمساهمة في تأمين تطور عمراني في صنعاء القديمة بما يلائم خصوصيتها وطابعها المعماري والمحافظة على الموروث العمراني للمدينة وكذلك التعاون بشكل كامل مع الجهات الرسمية في هذا الجانب وفي إحياء الحرف التقليدية والإسهام في نشر الوعي المجتمعي بأهمية الحفاظ على الموروث المعماري الصنعاني..

وأكد أحمد نواس أن الجمعية وفي خطوة أولى لترجمة وتجسيد مساعي الحفاظ على مدينة صنعاء التاريخية وتتويجا للمسئولية التي تتحملها، وقعت إتفاقا مع الهيئة العامة للمحافظة على المدن التاريخية، تقوم الجمعية بموجبه بتزويد الهيئة بكشف يضم اسماء المعماريين “الأساطية” وإشعارها بكل جديد على صعيد التحديثات والترميمات العمرانية.

وقال “نواس”: ان الجمعية وبموجب الاتفاق تلتزم بتوجيهات الهيئة فيما يخص الحفاظ على النمط العمراني طبقا للمواصفات التي ينص عليها القانون الخاص بالمحافظة على المدن التاريخية ولوائح بالهيئة، ومن جانبها التزامت الهيئة بعدم منح أي معماري “اسطى” رخصة مزاولة المهنة ما لم يكن حاصلا على عضوية الجمعية”.

وأضاف رئيس الجمعية: كما تم الاتفاق على اتخاذ الاجراءات القانونية ضد المخالفين الذين يقومون بتنفيذ أعمال أو يمارس تجاوزات تخالف المواصفات ولم يلتزم بما ورد في ترخيص الهيئة الممنوح لصاحب العمل، وذلك بسحب البطاقتين وتوقيفه عن العمل واحالته الى التحقيق لدى الشؤون القانونية بالهيئة.

الأزدواجية تعيق عمل الهيئة

 

مما سبق توقعنا أننا قد أحطنا بكل شئ وتعرفنا على الكثير من الأسباب التي تصنع وتقف وراء ما تعانيه مدينة صنعاء القديمة، لكننا ومن خلال التواصل مع الهيئة العامة للمحافظة على المدن التاريخية اكتشفنا وجود الكثير من الاسباب الاخرى التي تصنع معاناة المدينة وتعيق عمل الهيئة، وهي الحقيقة التي فوجئنا بها وسمعناها من نائب رئيس الهيئة العامة للمحافظة على المدن التاريخية المهندس نبيل النصاري الذي أكد وجود الكثير من الاسباب والمشاكل التي تصنع وتقف وراء ما تعانيه صنعاء، وأبرزها الأزدواجية والتدخلات التي تقوم بها العديد من الجهات وفي مقدمتها أمانة العاصمة والأوقاف والمجلس المحلي.

 وأوضح المهندس عقيل النصاري، أن مدينة صنعاء القديمة تتعرض للكثير من المشاكل التي تهدد مبانيها وتعرضها للخطر، والتي لم تعد تتوقف عند حدود المخالفات التي يقوم بها مالكي المنازل بل تجاوزتها إلى حدود أن بعض الجهات الحكومية تمارس عبثا أشد خطرا على المدينة التاريخية.

المياه والصرف الصحي

 

وفيما يتعلق بأبرز الأخطار التي تتهدد صنعاء القديمة قال النصاري إن إنتهاء العمر الافتراضي وتهالك شبكة المياه والصرف الصحي أصبح يشكل خطرا على المدينة ويتسبب في إحداث الكثير من الأضرار للمباني والمنازل القديمة، مشيرا إلى أن الهيئة تبذل قصارى جهودها وتعمل على إيجاد الحلول والمعالجات من خلال التواصل المستمر مع الجهات ذات العلاقة وفي مقدمتها أمانة العاصمة ووزارة الكهرباء والمياه.

وأكد أن الهيئة استطاعت رغم الظروف الصعبة التي تمر بها وافتقارها إلى الموازنة بسبب الحرب التي يشنها التحالف على اليمن، إنجاز الكثير من الأعمال ووضع حد للكثر من المخالفات التي كانت تستهدف تغيير وتشويه الطابع المعماري للمدينة القديمة، إضافة إلى أن الهيئة تعمل حاليا على إيقاف وإزالة المخالفات الجديدة والمتمثلة في المولدات الكهربائية التي تم وضعها بجانب سور صنعاء والتي تؤدي عملية تشغيلها إلى إحداث اهتزازات تؤثر سلبا على مباني السور، مشيرا إلى أن الهيئة تعمل أيضا على إزالة اللوحات الاعلانية المستحدثة والتي تم نصبها في محيط المدينة والتي تحولت إلى مصدات تحجب رؤية صنعاء القديمة.

وفيما يتعلق بالمباني التي تهدمت والمباني المتضررة بسبب الأمطار وبقائها دون ترميم أكد المهندس نبيل النصاري أن الهيئة قامت بترميم عدد 8 منازل وانتهت حاليا من اعداد الدراسات وستقوم بترميم 28 منزلا، ونبحث حاليا مع اليونسكو والاتحاد الأوروبي إمكانية تمويل مشاريع الترميم وإعادة البناء للمنازل المهدمة.

وأختتم النصاري حديثه بالتأكيد على أن الازدواجية والتدخلات التي تقوم بها الكثير من الجهات التي لا تبالي ولا تكترث بالأهمية التاريخية للمدينة يعيق عمل الهيئة العامة للمحافظة على المدن التاريخة، المسئولة الرئيسية والمباشرة بموجب القانون.

طارئ اليونسكو غير الطارئ

اواخر العام 2015 ادانت اليونسكو ما تعرضت له صنعاء من استهداف من قبل طيران التحالف، وكنوع من إسقاط الواجب أعلنت على لسان المديرة العامة، إيرينا بوكوفا، عن خطة عمل طارئة للحفاظ على التراث الثقافي اليمني المادي وغير المادي.

وقالت اليونسكو في اختتام اجتماع خبراء في مجال التراث، الذي انعقد في مقر المنظمة بباريس منتصف يوليو 2015 ان خطة العمل الطارئة تندرج في اطار الدور الذي اضطلعت به في قيادة التحرك الدولي عبر التحالف العالمي في حملة “متحدون مع التراث”.

لكن وفي الوقت الذي أدانت فيه اليونسكو، الاستهداف الذي تعرضت له صنعاء القديمة من قبل مقاتلات التحالف وعبرت عن أسفها للخسائر في الأرواح البشرية، وما لحق بصنعاء كواحدة من أقدم جواهر الحضارة الإسلامية من تدمير، إلا أن شيئا لم يحدث ولم تقدم اليونسكو ما يمكن أن نلمس من خلاله حرصها على حماية واحدة من أهم مدن التراث العالمي.

 

هنا كانت تقف منازل منذ قرون استهدفها التحالف

 

 

قد يعجبك ايضا