الدريهمي أشهر من الحرب والدمار
كتب /هلال إسماعيل
لم يكنِ الرابع من أغسطس يوماً عادياً في مدينتي الصغيرة “الدريهمي”، فقد كان يوم شؤم ونكبة ودمار لكل ما هو جميل..
بدأت الكارثة بعد منتصف ليل الجمعة حيث بدأت أصوات طلقات الرصاص تتعالى من كل حدب وصوب.. كان الناس نائمون آمنون في بيوتهم.. أصابهم الهلع والخوف مما يسمعون.. لم يجرؤ أحد على الخروج من منزله خوفاً من رصاصةٍ غادرة.. استمر الحال المرعب حتى ظهر السبت حين سمع الناس صوتاً من الجامع الكبير ينبؤهم بأن الفتنة انتهت وأخمدها الله.. خرج الناس من بيوتهم يبحثون عن ما يسد جوعهم فقد ظلوا ساعات طوال بدون أكل إلا ما قد خبأوه من بسكويت وماء داخل غرفهم تحسباً لهذه اللحظات العصيبة..
صباح يوم الأحد بدأ الناس يجهزون أمتعتهم للنزوح خوفاً من الحرب التي ستسعر ولن تبقي أو تذر أحداً.. حينها أصبح الواقع أشد مرارةً عندما تضطر إلى النزوح وتترك كل ما تملك عرضة للنهب والدمار.. لم يكن هناك من خيار آخر.. اشتدت موجة النزوح وأصبحت أيام وليال الدريهمي بكاءةً.. الناسُ يودع بعضهم البعض ولا يعلمون متى يلتقون وأين؟!.. الأم تودع إخوتها وأخواتها على أمل اللقاء يوماً.. كانت اللحظات عصيبةً وأصوات المدافع تقترب.. أصبح الناس ينزحون بالمئات وليس بالعشرات.. لم يظل بيت واحد لم يبك أفراده.. لن أبالغ إن قلت بأنه كان أسبوعاً باكياً وحزيناً في مدينتي.. الكثير من الناس باع أعز ما يملك للنجاة بأرواحهم من موت محقق إما بالحرب أو بالجوع والمرض، فمدينة صغيرة كهذه لا تقوى على شيء فهي تلك المدينة المحرومة من أبسط مقومات الحياة.. تفرق الناس وتشتت شملهم في مشارق الأرض ومغاربها، شمالها وجنوبها.. حتى الأسرة الواحدة تشتت وتفرقت بعد أن عاشت سنيناً طوالاً لا يكاد يفارق أحد الأفراد الأسرة إلا للضرورة القصوى.. انفجرت الحرب ودمرت المساجد والمساكن، حتى المدارس أصبحت متارس، مات الكثير من الناس وأصيب الآخرون بجروحات بليغة.. كان الواحد ينظر إلى قريبه ينازع الموت ولا يستطيع فعل شيء من أجل انقاذه.. مات شباب في ريعان شبابهم بسبب النزيف الذي أصابهم اثر الجروح البليغة، ولم يستطع أحد اسعافهم.. ما أصعبها من لحظات وأنت تنظر إلى قريبك يموت!!.. بل أسر بأكملها تمت ابادتها.. يا الله أيعقل ما حل بمدينتنا ذات الجو الرائع مساءً والأهدأ صباحاً.. لا أكاد أصدق ما حدث!! مدينة بأكملها أصبحت خراباً ودماراً ولا زالت حتى اللحظة.. المدينة التي كانت رمزاً للبساطة والحياة المتواضعة.. لم يعد هناك مساجدٌ تصدح بالأذان وقت الصلوات ولا حتى مصلين.. فلا صوت يعلو فوق أصوات الرصاص على مدار الساعة.. أين ذهبت تلك الأيام عندما كانت تقام مسابقات المدارس ومسابقات القرآن بين أبناء المدينة.. بل أين ذهب سوق يوم الجمعة الذي كان يوم وعدٍ يجلب الناس من كل حدب وصوب للتبضع وشراء ما يحتاجون من طعام وشراب.. من كان يصدق أن مدينة بأكملها نزح أهلها منها قصراً وقهراً.. ومن تأخر أدركته آلة الموت حتى لم يجد من يدفنه أو يصلي عليه.. إنها لعنة الحرب التي إن اشتعلت لم تنطفىء حتى تأكل الأخضر واليابس.. إنها الحرب التي كلما اشتد سعيرها كانت نتائجها كارثية.. ويظل النزوح قصةً مؤلمةً..
أسأل الله العلي القدير أن يعيد إلينا مدينتنا وأن ينتقم ممن كان السبب في خرابها ودمارها، فهو الواحد القادر على ذلك.