الحديدة: قصة الناجي الوحيد من ضحايا محرقة الفحم في الدريهمي
“دفنٌ جماعي، ومن نجى حملَ نعش روحه” قصة الناجي الوحيد من ضحايا محرقة الفحم في الدريهمي
في سبيل الحصول على كسرة خبزٍ بعيدة عن صواريخ طيران السعودية وقنابلها القاتلة. بحثَ ويبحثَ اليمنيين عن حياة خارج المُدن والمناطق المُستهدفة، لكن كما يبدو لا مفر، فهذا العالم يخوض معركةٍ من طرفٍ واحدٍ ضدّ الإنسان اليمني الأعزل، وحيث وليت وجهك فثمة وجهة الطيران وغاراته الفتاكة،
كانت الشمس تلملم ما تبقى من خيوطها الباهتة استعدادا للرحيل، حيث ذاب المكان في صحراء من غبار مؤثثة من بقايا أشجار محترقة وفي السابعة مساء الـ 25 من رمضان، الموافق، 10 يونيو، حزيران 2018م.
في هذه الأثناء كان عايش ووالده وخاله يجلسان على سفرة الإفطار منتظرين صوت المؤذن من مذياعهم الصغير، وقبل أن يتسنى لأفواههم تناول الماء، كانت الطائرة القادمة أقرب لدمائهم، وبصاروخٍ قاتلْ نثرت أشلائهم على السفرة وفي المكان نفسه، إلا عايش فقد عاش بإعاقة غائرة، ألقت به مُعالاً بين أيادي السكان، حيث مسحت له الجهة اليُمنى بشكّلٍ جزئي،
وبعد عدّة عمليات. اضطر الأطباء فيها قطع أعضاء من بطنه لأيمنه، استعاد وعيه، لكنه لم يستعد قدراته،
صاموا على رائحة الفحم نهاراً كاملاً وفطرَ على اجسادهم طيران التحالف السعودي الأمريكي قبل أن يفطروا،
يقول عايش : ينتابني شعور الذنب لأنّني كنت شاهد عيان على موت والدي وخالي دون أن أفعل شيء أو أرافقهم في رحلة الموت تلك،
ثم يكمل بابتسامة مجروحة، ورئة تتنفس البارود، (مش احسن يا صاحبي لو متنا سوا .!)
بعد مساء دامٍ شهده عايش، وبعد أن أودتْ تلك الطائرة بروح والده وخاله وأعالته مُعاقاً، مخلفة هموماً لا تُحصى ومآسٍ لا تُنسى لأكثر من أسرة، فاق عايش من غيبوته على هول الكارثة
رأى زوجته تحمل نعش والدها وكأنها تعاتبه لِما تخلى عنه ولم ينقذه، فبكى عايش بكاء العاجز الذي يتهادى مستنداً على أكف الآخرين
يا عزيزتي : لم يكن خطأي، إذ ان شظايا الصاروخ الذي طال اجسادهم افقدني الوعي واجزاء من جسدي،
لقد تناثروا وبقيت أنا معلقاً بين السماء والأرض
نجى عايش من الموت، فكان الموت البطيئ في انتظاره ..
إعاقة مُستمرة، وخيم نزوح، وغصة في القلب تخنقه على فراق الاحبة،
وبعد نزوح لم يستمر كثيراً، عاد عايش مُجبراً إلى الحديدة، تاركاً بقايا روحه في صنعاء، حين اشتد على جراحه بردها.
يأوي مشرداً حتى عن أطفاله يستظل بالذكرى ، يتلحف بالألم ، ويتجرع مرارة الوحدة والضياع،
ولم يتبقى من حياة عايش سوى آخر صورة لفأسه المحطمة، ورائحة الموت المختلط بالحطب
كلما استيقظ، قبّلها وأجهش بالبكاء وانتفض جسده، هُنا كل جوارحه تبكي وتودع حياة، في عالمٍ أضحت الرحمة فيه أضغاث أحلام،
عالم يتغنى بإنسانية معدومة في واقعه
عايش، لم يكن الوحيد الذي نال نصيبه من شظايا هذه الآلة الحاقدة فالمأساة واسعة سعة هذا الوطن، مابقي القاتل يسقي الحياة من كأس الموت
عايش تهاميٌّ بسيط، لا يفهم في الوطنية إلا حبُّه لأرضه، ومن الكفاح إلا قداسة العمل
صوته قبلات اليمن، ووجهه الريفي من طين الحياء، وكل ثروته معولٌ يُحارب به جوع أطفاله،
هذا قبل أن يسلبه العالم حياته ويُلقي بظلال العجز القاتم على مستقبله “